السيّد عليّ مرتضى
عندما نقرأ الآيات الأولى من سورة الإسراء المباركة فإنَّ أوّل ما يتبادر إلى الذهن بنو إسرائيل وما جرى معهم عبر التاريخ. ويُفهم، ابتداءً من الآيات الكريمة، أنهم قاموا بالعلوّ والفساد والظلم مرتين: في الأولى بعث الله عليهم عباداً له تحكّموا بهم، ثمّ عادوا، بعد فترة العود والكرَّة ولمّ شملهم من جديد، للعلوّ والفساد والظلم، فيبعث الله عليهم عباداً كالمرّة السابقة، وإنّ هذا هو الوعد الإلهيّ الحقّ. والجميع يترقّب هذا الوعد الثاني، خصوصاً بعدما وصل بنو إسرائيل إلى ما وصلوا إليه من الظلم والجور والطغيان.
*تفاسير مختلفة والحتميّة واحدة
كان المسلمون عبر التاريخ الإسلامي يقرؤون هذه الآيات الكريمة، ويطبّقونها على فترات زمنية مختلفة. ومن هنا نجد اختلاف التفاسير في هذه الآيات، حيث طبّقها بعض المفسّرين على مصاديق وأحداث تاريخية كانت في عصره وهو يترقَّب الوعد الإلهيّ الثاني.
الآيات الأولى من سورة الإسراء المباركة هي:
﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِير﴾(الإسراء: 4 – 8).
* إفسادان تاريخيان لبني إسرائيل
تتحدَّث الآيات عن فسادين اجتماعيين كبيرين لبني إسرائيل، يقود كلّ منهما إلى الطغيان والعلوّ. وقد سلَّط الله عليهم عقب كلّ فساد رجالاً أشدّاء شجعاناً يذيقونهم جزاء فسادهم وعلوّهم وطغيانهم في الأرض، مع غضّ الطرف عمَّا سينالونه من جزاء أخرويّ أعدَّه الله لهم.
ورغم اتّساع تاريخ بني إسرائيل، وتنوّع ما جرى عليهم فيه، نجد المفسّرين يختلفون في كلّ المواقف التي يتحدَّث القرآن فيها عن حدث تاريخيّ حصل مع بني إسرائيل. وعلى سبيل إثبات على هذه الحقيقة نتعرَّض فيما يلي للنماذج الآتية:
أوّلاً: يُستفاد من تاريخ بني إسرائيل أنَّ أوّل من هجم على بيت المقدس وخرّبه هو ملك بابل “نبوخذ نصر”، حيث بقي الخراب ضارباً فيه لسبعين عاماً، إلى أن نهض اليهود بعد ذلك لإعماره وبنائه. أمّا الهجوم الثاني الذي تعرَّض له، فقد كان من قِبَل قيصر الروم “أسييانوس” الذي أمر وزيره “طرطوز” بتخريب بيت المقدس وقتل بني إسرائيل. وقد حصل ذلك في حدود مائة سنة قبل الميلاد.
وبذلك يحتمل أن تكون الحادثتان اللّتان أشارت إليهما الآيات هما نفس حادثتي “نبوخذ نصر” و”أسييانوس”، لأنَّ الأحداث الأخرى في تاريخ بني إسرائيل لم تُفنِ جمعهم، ولم تُذهب بملكهم واستقلالهم بالمرّة، ولكنّ نازلة “نبوخذ نصر” ذهبت بجمعهم وسؤددهم إلى زمن “كورش” حيث اجتمع شملهم مجدداً، وحرّرهم من أَسْر بابل، وأعادهم إلى بلادهم، وأعانهم في تعمير بيت المقدس، إلى أن غلبتهم الروم وظهرت عليهم، وذهبت قوّتهم وشوكتهم1.
لقد استمرّ بنو إسرائيل في مرحلة الشتات والتشرّد إلى أن أعانتهم القوى الدوليّة الاستعماريّة المعاصرة في بناء كيان سياسيّ لهم من جديد.
ثانياً: هناك تفسير آخر يورده “سيّد قطب” في تفسيره “في ظلال القرآن” يختلف فيه مع كلّ ما ورد، حيث يرى أنّ الحادثتين لم تقعا في الماضي، بل تتعلّقان في المستقبل، فيقول: فأمَّا إذا عاد بنو إسرائيل إلى الإفساد في الأرض فالجزاء حاضر والسُنَّة ماضية وإن عدتم عدنا. ثمّ يقول:
“ولقد عادوا إلى الإفساد فسلَّط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة كلّها. ثم عادوا إلى الإفساد وسلّط الله عليهم عباداً آخرين، حتّى كان العصر الحديث فسلّط عليهم “هتلر”. ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة “إسرائيل” التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات. وليسلِّطَنَّ الله عليهم من يسومهم سوء العذاب، تصديقاً لوعد الله القاطع، ووفاقاً لسُنَّته التي لا تتخلّف… وإنَّ غداً لناظره قريب!”.
ولكنَّ الاعتراض الأساس الذي يرد على هذا التفسير، هو أن أيّاً منهما لم ينْته بدخول القوم المنتصرين (على اليهود) إلى بيت المقدس حتّى يخرّبوه.
ثالثاً: أورد بعض المفسّرين أنّ الإفسادين الكبيرين لبني إسرائيل يرتبطان بأحداث ما بعد الحرب العالميّة الثانية، حيث يقول هؤلاء: إنَّ قيام الحزب الصهيونيّ وتشكيل دولة لليهود باسم “إسرائيل” في قلب العالم الإسلاميّ مثّل الإفساد والطغيان والعلوّ الأوّل لهم، وبذلك فإنَّ وعي البلاد الإسلاميّة لخطر هؤلاء دفع شعوبهم في ذلك الوقت إلى التوحّد وتطهير بيت المقدس وقسم آخر من مدن وقرى فلسطين، حتى أصبح المسجد الأقصى خارج نطاق احتلالهم بشكل كامل.
أمَّا المقصود من الإفساد الثاني حسب هذا التفسير، فهو احتلال اليهود مجدّداً للمسجد الأقصى بعد أن حشدت “إسرائيل” قواها واستعانت بالقوى الدوليّة الاستعماريّة في شنِّ هجومها الغادر (عام 1967).
وبهذا الشكل يكون المسلمون اليوم في انتظار النصر الثاني على بني إسرائيل، ليخلِّصوا المسجد الأقصى من دَنَس هؤلاء ويقطعوا دابرهم من كلّ الأرض الإسلاميّة. وهذا ما وعد به المسلمون من فتح ونصر آتٍ بلا ريب.
والذي ينبغي الالتفات إليه هو:
أ- ما يُستفاد من ظاهر قوله تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِير﴾ بأنَّ الإفساد الأوّل على الأقل، والانتقام الإلهيّ من بني إسرائيل، كان قد وقع في الماضي.
ب- إنَّ قوله تعالى: ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ يفيد أنَّ الرجال الذين سيؤدِّبون “بني إسرائيل” على فسادهم وعلوّهم وطغيانهم، هم رجال مؤمنون، شجعان، حتى استحقّوا لقب العبوديّة. وممّا يؤكّد هذا المعنى الذي غفل عنه معظم التفاسير، هو كلمة “وبعثنا” و”لنا”.
*الآيات وتفسير الروايات
نرى في روايات عدّة انطباق الآيات المذكورة على بعض أحداث التاريخ الإسلاميّ.
فيشير إلى أنَّ المقصود من قوله تعالى: ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ هو الإشارة إلى الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وأصحابه.
وفي روايات أخرى نقرأ أنَّ المقصود، هو نهضة مجموعة من المسلمين قبل ظهور الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف2.
من الواضح أنَّ هذه الأحاديث لا تفسّر الآيات، تفسيراً لفظيّاً، لأنَّ الآيات تتحدَّث بصراحة عن بني إسرائيل، ولكنها تتحدَّث عن التشابه بين نهج هؤلاء (بني إسرائيل) ونهج ما يقع على شبههم وحالتهم في أحداث التأريخ الإسلاميّ.
وهكذا ننتهي إلى نتيجة مؤدَّاها أنَّ الآيات وإن تحدَّثت عن خصوصيّات بني إسرائيل، إلّا أنّها تتّسع في مفهومها لترتفع إلى مستوى القاعدة الكلِّيَّة، والسُنَّة المستمرة في تأريخ البشريّة بما يطويه من حياة شعوب وأُمَم، فإنَّ السُنّة الإلهيّة جارية على كلّ مَنْ يستكبر ويعلو في الأرض أنّه سوف يرسل الله عليهم رجالاً مؤمنين أُولي بأسٍ شديد يقلبون سافلهم أعلاهم، يدخلون ديارهم وينتصرون عليهم ويعيشون من بعدهم الشتات، ولكن يبقى باب التوبة لهم مفتوحاً وباب هذه السُنَّة مفتوحاً أيضاً، ﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِير﴾(الإسراء: 8).
*سُنَّة الله وإنْ عُدتم عُدنا
والظاهر من تفسير هذه الآيات وهو ما عليه العلّامة الطباطبائيّ3، أنّ الآيات الأولى من سورة الإسراء المباركة تشير إلى سُنَّة إلهيّة تجري مجرى القاعدة على جميع البشر، لا تختلف ولا تتخلّف، وهي أنَّ أعمال الإنسان سواء كانت حسنة أم قبيحة فإنَّ مردودها يعود إليه. ورغم أنَّ الآيات تتحدَّث عن بني إسرائيل، ولكنَّ القاعدة التي تقدّمها هذه الآيات عامّة وشاملة لكافّة البشر على مرِّ التاريخ.
والحياة والتاريخ يعكسان لنا كثيراً من تلك النماذج التي أسّست أعمالاً وسُنَناً سيِّئة، وسنَّت قوانين ظالمة ومبتدعة، ولكنها في النهاية، كانت ضحيَّة ما سنَّت وابتدعت وأسّست، وكانت نهايتها ونهاية من يلوذ بها الوقوع في نفس الحفرة التي حفرتها للآخرين، وبذلك نالت جزاءها بما اقترفت يداها.
ولهذا السبب نجد أنّ بني إسرائيل لاقوا جزاءهم السريع في الدنيا، من دون أن يعني ذلك انتفاء العقاب الأخرويّ، إذ عاشوا طويلاً واقع الشتات والتشرّد، وذاقوا الكثير من السوء والمصائب.
*خلاصة البحث
تتحدَّث هذه الآيات الكريمات عمَّا لحق بني إسرائيل من فسادين كبيرين عبر التاريخ، وكيف أنَّ الله تبارك وتعالى جعل الحاكم في هذا العالم سُنَناً إلهيّة، وهم لم ولن يتخلَّفوا عنها بوجه من الوجوه، لذلك لن يهملهم، فالله تعالى لا يهمل الظالمين ولا يسكت على ظلمهم، بل على الإنسان أن يعتبر ويتّعظ من سنن التاريخ وأحوال الأمم الماضية وأنها لا تختلف ولا تتخلَّف.
1- تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج13، ص44 فما بعد.
2- نور الثقلين، الحويزي، ج3، ص138.
3- تفسير الميزان، م.س، ص41.