شكّلت الصورة والخبر المنقول من أرض المعركة، المستند الذي يدين “إسرائيل” ويكشف زيف ادعاءات “الدفاع عن النفس”، وتمّ كسر الاحتكار الغربي والإسرائيلي للسردية ومخاطبة الرأي العام العالمي.
كان لافتاً ما أوردته صحيفة بوليتيكو الأميركية يوم 22 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، حول اتفاق الهدنة بين حماس و”إسرائيل”، فذكرت “أن هناك بعض القلق في الإدارة الأميركية بشأن العواقب غير المقصودة للهدنة، إذ إنها ستسمح للصحافيين بوصول أوسع إلى غزة، وتتيح الفرصة لهم لمزيد من تسليط الضوء على الدمار هناك، وتحويل الرأي العام ضد إسرائيل”.
هذه الكلمات القليلة تكشف عميقاً لماذا تقوم “إسرائيل” باستهداف متعمّد للصحافيّين في كل من غزة ولبنان، وآخرهم شهداء الميادين الصحافية فرح عمر، وزميلها المصوّر ربيع معماري، إذ إنّ “إسرائيل” وعت مبكراً أهمية الإعلام ودوره في تكريس الدعاية الصهيونية، وتدرك تماماً الدور الذي يؤديه الإعلام في كشف زيف تلك الدعاية والمجازر التي ترتكبها “إسرائيل” في غزة.
دور الإعلام في تأسيس الصهيونية
كان ثيودور هرتزل صحافياً نمساوياً يهودياً، هو من نظّم المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا في آب/أغسطس عام 1897. وقبل المؤتمر، تفرّغ هرتزل للكتابة والترويج لمشروع “إقامة دولة لليهود” عبر وسائل الإعلام، وأصدر كتاباً بعنوان “دولة اليهود: محاولة لحل عصري للمسألة اليهودية”، وتمّ تأسيس صحيفة أسبوعية للحركة الصهيونية “دي وولت”. كتب هرتزل في افتتاحية العدد الأول منها في 3 حزيران/يونيو من عام 1897 بأن “على هذه الصحيفة أن تتحوّل درعاً حامية للشعب اليهودي، وتكون سلاحاً ضد أعدائه”.
بسبب قدرته الإعلامية والصحافية، استطاع هرتزل أن يجمع الجاليات اليهودية من عدة دول لعقد المؤتمر الصهيوني الأول، وأن يتوصّل إلى إقرار الهدف الصهيوني في “إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين” وذلك عبر: تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، تنظيم اليهود وربطهم بالحركة الصهيونية، محاولة كسب شرعية دولية للكيان، تشكيل الوكالة اليهودية لجمع الأموال لإقامة المستعمرات في فلسطين، وتشكيل المنظّمة الصهيونية بقيادة هرتزل نفسه.
دور الإعلام في تأسيس “إسرائيل”
إدراكاً منها بدور الإعلام وتأثيره، سخّرت الحركة الصهيونية المال في تأسيس مؤسسات إعلامية للترويج للفكرة الصهيونية لكسب الرأي العام اليهودي والعالمي لتحقيق أهدافها، فأسست الإذاعات والصحف الناطقة باللغة العبرية، ومنها ما زال مستمراً لغاية اليوم وهي صحيفة هآرتس (التي صدرت عام 1919) ويديعوت أحرنوت (صدرت عام 1939) وصحيفة معاريف (التي صدرت عام 1948).
إضافة إلى ذلك، قام بن غوريون بعد عام 1948، بتأسيس “هيئة رؤساء تحرير الصحف”، وذلك للتحكّم بشكل كبير بما ينشر من قبل الصحف ووسائل الإعلام في “إسرائيل” وهي التي مهّدت لما عرف في وقت لاحق باسم “الرقابة العسكرية” والتي تراقب وتوجّه وتحدّد ما ينبغي وما لا ينبغي نشره خلال الحروب، وبشكل أقل في أوقات السلم.
وبالرغم من أن الإعلام الإسرائيلي يؤدي جزءاً من المعارك ضد الفلسطينيين والعرب، ولا ينشر ما يمكن أن يمسّ الأمن القومي الإسرائيلي، لكنه في الإطار الداخلي استطاع أن يشكّل ضابطاً لأداء السلطة السياسية، وكاشفاً للفساد بما يخدم المجتمع الإسرائيلي و”الدولة”، ونذكر منها على سبيل المثال، قضايا الفساد التي تمّ كشف تورّط نتنياهو فيها.
وكما دونالد ترامب، قام بنيامين نتنياهو باستخدام وسائل الإعلام ووسائل التواصل الحديثة لدعم أجندته الخاصة، ومقارعة خصومه ومهاجمتهم، ودعم أجندة اليمين الإسرائيلي. واستخدم الإسرائيليون – خاصة اليمين- تلك الوسائل لبثّ الكراهية والحضّ على العنف ضد العرب بالدرجة الأولى وضد المعارضين من الإسرائيليين.
دور الإعلام في كشف حقيقة “إسرائيل”
انتشر في الغرب منذ عام 2016، مفهوم جديد، عنوانه “ما بعد الحقيقة”. ويعرّف قاموس أكسفورد هذا التعبير بأنه مفهوم يشير إلى السياق أو وصف الظروف “التي تصبح فيها الحقائق الموضوعية أقلّ تأثيراً في تشكيل الرأي العام من الشحن العاطفي والمعتقدات الشخصية”.
لقد كشفت حرب غزة هذا العام الكمّ الهائل من التزييف والادعاءات والمزاعم خاصة في الخطاب الإسرائيلي، الذي يحاول ترويج قصص لا أساس لها من الصحة، والتي عاد الإسرائيلي ليتراجع عنها بعد فضحها من قبل الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي والإعلاميين والإعلاميات الموجودين في أرض المعركة، ينقلون الخبر والصورة إلى العالم.
شكّلت الصورة والخبر المنقول من أرض المعركة، المستند الذي يدين “إسرائيل” ويكشف زيف ادعاءات “الدفاع عن النفس”، وتمّ كسر الاحتكار الغربي والإسرائيلي للسردية ومخاطبة الرأي العام العالمي الذي ظهر منفتحاً على تنوّع الآراء، فكذّبت الدلائل المباشرة من الميدان صورة “الضحية” الإسرائيلية.
لهذا، تحوّلت آلة القتل الإسرائيلية لاغتيال الصحافيين والصحافيات من دون تمييز، لقتل الشهود وترويع الآخرين منهم، والقول بأن ثمن الحقيقة سيكون كبيراً جداً. وبات السؤال الكبير: مَن يستمرّ بالتمسك بنقل الحقيقة؟ الاجابة على هذا السؤال، هي المقياس الحقيقي للصحافة المقاوِمة.