لا شك أنه على المرء الذي يقدِّر ذاته أن يتجنَّب كل مواقف الذُّلِّ والهوان والإسلام فله موقف واضح في هذا المجال، فهو يُحَرِّم على المسلم كل فعل أو موقف أو حال من الأحوال أو كلام يجلب إليه المَهانة والمَذلَّة.
لا يعرف مرارة الذُّلِّ إلا من جربه، ولا يعرف قيمة العِّزَّة إلا من كان عاش الحياة عزيزاً، والذٌّلُّ والعِزَّة أمران نفسيان يتمظهران في مواقف الشخص وأحواله، فرُبَّ ذليل مُهان يلبس أفخر الثياب، ويركب أفخر السيارات، ويسكن أفخر القصور، وقد يكون رئيس قوم تُعْزَف له موسيقى الترحيب أينما حَلَّ، وتُنْشَد في مدحه الأناشيد، وقد يُجَيِّشُ الجيوش، ويحشد الفيالق لحرب من هو أضعف منه، ولكنه ذليل مُهان بين يَدَي من هو أقوى منه، يقضي حياته وحاكميته مأموراً فيأتمر، ومَنهِياً فينتهي، يطلب رضا سيده ومولاه وعَونَه ومَدَدَه، بحيث لو تخلَّى عنه داعِمُه لم يبقَ في مقامه عشراً من الدقائق، فهو ذليل مدى دهره، قد استمرأ الذُّل والهَوان، حتى صار خادما لولِيِّ نِعمته، وليت الأمر يقف معه عند نفسه، بل تراه يُهين دولته، ويُهين شعبه، ويتخلّى عن كل مقدراته طمعاً بقليل من رضا وليه.
وقارئي يعرف الكثير من نماذج صارخة في الذُّلِّ والمَهانة، فأنت تعرفها جيداً، فعالمنا العربي مَليءٍ بهذا النموذج السيء، ولك أن تستعرض في ذهنك صور وأسماء الكثير الكثير من هؤلاء، من رؤساء، وملوك، وأمراء، ووزراء، ونواباً، ومسؤولين من رُتَب عالية ودانية، وقادة جيوش، وضُبَّاطاً، وعُلماء، ومفكرين، وكُتاباً، وإعلاميين. وقائمة تطول ولا تنتهي، فستجد الكثير من هؤلاء قد استمرأوا الذلَّ والهوان، حتى صاروا يجدون العزة في هوانهم، والكرامة في ذُلِّهم، والشرف في خنوعهم، والإباء في رضوخهم، والنُّبل في انصياعهم.
مقابل هذه النماذج تجد نماذج رائعة من الأعزّاء الذين يُفضلون الموت على الهوان، والخسارة على الذل، والعُزلة على الخنوع، يقفون مواقف الشرف والإباء، أنوفهم حمية ونفوسهم أبية، عِزَّتهم تناطح السحاب بل تعلوه، وكرامتهم ترتقي فوق الكرة الأرضية كلها، إذا نادتهم الشجاعة كانوا أول من يلَبّيها، وإذا استصرختهم أمتهم كانوا أول من يفدوها بأرواحهم، وإذا احتاج الحق إلى نصير نصروه، وقارعوا الباطل وأماتوه، ولم تأخذهم في كرامتهم وعِزَّتهم لومة لائم.
لا ينال من عِزَّتهم لا ملك ولا سلطان، ولا يفت من عَضُدهم ترهيب ولا ترغيب. ولا يخيفهم سجن ولا قتل، وهؤلاء قد يكونون فقراء لا يملكون قوت يومهم، ويسكنون بيوتاً من الصفيح، ويمتطون أقدامهم، وجيوبهم خالية خاوية من المال، لكن نفوسهم تنضح بالعِزَّة والكرامة والإباء.
ويصدق في هؤلاء قول الإمام جعفر الصادق (ع): “إِنَّ الْحُرَّ حُرٌّ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، إِنْ نَابَتْهُ نَائِبَةٌ صَبَرَ لَهَا، وَإِنْ تَدَاكَّتْ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ لَمْ تَكْسِرْهُ، وَإِنْ أُسِرَ وَقُهِرَ وَاسْتُبْدِلَ بِالْيُسْرِ عُسْراً، كَمَا كَانَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ الْأَمِينُ (صلوات الله عليه) لَمْ يَضْرُرْ حُرِّيَّتَهُ أَنِ اسْتُعْبِدَ وَقُهِرَ وَأُسِرَ، وَلَمْ تَضْرُرْهُ ظُلْمَةُ الْجُبِّ وَوَحْشَتُهُ وَمَا نَالَهُ أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ الْجَبَّارَ الْعَاتِيَ لَهُ عَبْداً بَعْدَ إِذْ كَانَ لَهُ مَالِكاً، فَأَرْسَلَهُ وَرَحِمَ بِهِ أُمَّةً ، وَكَذَلِكَ الصَّبْرُ يُعَقِّبُ خَيْراً ، فَاصْبِرُوا وَ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الصَّبْرِ تُوجَرُوا”.
ومما لا شك فيه أن على المرء الذي يقدِّر ذاته أن يتجنَّب كل مواقف الذُّلِّ والهوان، وأن لا يتنازل عن عزته للحظة واحدة، فإن ساعة واحدة من الذُّل لن يعوضها عِزُّ الدهر لأن الذليل سيبقى موسوماً بالذلة، ولذلك ينهى العقل الإنسان عن كل فعل يجلب الذلة لصاحبه، أما الإسلام فله موقف واضح في هذا المجال، فهو يُحَرِّم على المسلم كل فعل أو موقف أو حال من الأحوال أو كلام يجلب إليه المَهانة والمَذلَّة فقد جاء عن الإمام جعفر الصادق (ع): “إِنَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَوَّضَ إِلَى الْمُؤْمِنِ أُمُورَهُ كُلَّهَا، وَلَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ، أَلَمْ تَسْمَعْ لِقَوْلِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلِلّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) فَالْمُؤْمِنُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَزِيزاً، وَلَا يَكُونَ ذَلِيلًا، يُعِزُّهُ اللّهُ بِالْإيمَانِ وَالْإسْلَامِ”.