النظرة تزرع في القلب الشهوة
ممّا تسالم عليه العقلاء في كلّ زمان أنّ النظر الحرام أصل كثير من المصائب التي يقع فيها الناس، وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: “عمى البصر خير من كثير النظر”[1].
وأنت تعلم أيّها القارئ الكريم أنّ أيّ معصية من اللمم قد يفعلها الإنسان، وينتهي أثرها، لكن النظرة الحرام ليست كذلك، فلا ينتهي أثرها، إذ ليست القضية أنّك عندما تنظر إلى تلك الفتاة أو عندما تنظر الفتاة إلى ذاك الشاب تكتب عليهما سيّئة وينتهي الأمر عند هذا الحد، نعم هي سيّئة تُكتب عليهما وسيُحاسبان عليها، فإنْ شاء الله عفا عنهما بكرمه، أو عاقبهما بعدله لكن هناك ثمّة سؤال يطرح نفسه، وهو: هل تقف القضية عند هذا الحد؟
الجواب لا، فإنّ هذه النظرة يعقبها ما بعدها، فأنت تنظر النظرة ويزول أمامك من قد نظرت إليه، وفيما بعد يبدأ الشيطان بتحريك هذه الصورة في الذهن ويُزيّن صورة المنظور، ويجعله صنماً يعكف عليه القلب، ثم يعِدهُ ويُمنِّيه، ويوقد على القلب نار الشهوات، ويُلقي حطب المعاصي التي لم يكن يتوصّل إليها بدون تلك الصورة، ومن ثم تتدرّج الحالة إلى التفكير الطويل الذي يأسر لُبّ هذا الشاب أو تلك الفتاة، فيوصلهم إلى مرحلة تستولي فيها عليهم الشهوات، فيبحثوا عن سُبل قضائها، فإنْ قضوها فيما حرّم الله، وقعوا في المعصية التي تُغضب الباري سبحانه وتعالى، ووقوعهم في هذه المعصية يُسهّل لهم ما بعدها، ثم بعد ذلك يتدرّج بهم الأمر أكثر من السابق حتى يهويان في وادٍ سحيق، كان بدء السقوط فيه تلك النظرة العابرة التي كانت باباً عريضاً لمعصية الله عزَّ وجلَّ، وأعمت القلب عن الإبصار الحقيقي، ولذا ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: “العيون طلائع القلوب”.
كلّ الحوادث مبداها من النَّظَرِ ومعظمُ النار مِن مستصغَر الشَّرَرِ
كم نظرةٍ فَتَكَتْ في قلب صاحبها فَتْكَ السهامِ بِلا قوسٍ ولا وَتَر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطرِ
يَسُرُّ مقلتَه ما ضَرَّ مهجتَه لا مرحباً بسرور جاء بالضَّرَرِ
كفى بها لصاحبها فتنة
إنّ غلبة الشهوة على عقل الإنسان، وقلبه تجعله يتخبّط في مستنقع آسن يصعب الخروج منه، وقد أطلق الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وصفاً غير محمود على ذلك الإنسان الذي حَمّلَ قلبه دوام الحسرات، وأتعب عقله إلى يوم الممات عندما أذن لتلك الصورة التي التقطتها النظرة الحرام أن تنطبع في عقله وقلبه، وبالتّالي أضحت فكرة – شهوة – تُبنى عليها جملة من الأفكار السلبية، وذلك من اللحظة التي جعلها صاحبها جزءاً من منظومته الفكرية. وقد نَبَّه الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى خطورة هذا الأمر، وذلك فيما روي عنه عليه السلام: “من أطلق ناظره أتعب حاضره، ومن تتابعت لحظاته دامت حسراته”[2].
ولأنّ العلاقة بين الشهوة والنظرة علاقة مترابطة متينة لا تنفكّ أبداً كان أخطر شيء على القلب إطلاق العنان للنظر؟! فالنظرة تُكلّم القلب كلماً بليغاً، وأكثر ما تدخل المعاصي على العبد من هذا الباب، وقد روي عن مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة، فمن تركها من خوف الله أثابه جلّ وعزّ إيماناً يجد حلاوته في قلبه”[3]، والنكتة في إطلاق لفظ السهم على النظر هي تأثيره في قلب الناظر وإيمانه، كتأثير السهم الخارجي في الغرض، ومن هنا أُطلق عليه زنا العين[4].
فيا طرف قد حذّرتك النظرة التي خلست فما راقبت نهياً ولا زجراً
ويا قلب قد أرداك طرفي مرة فويحك لم طاوعته مرّة أخرى
ومن تأمّل كيف تزرع النظرة في القلب الشهوة، عَرف كيف ستُشغل القلب وتُنسيه مصالحه، فتُفسد الإيمان وتُنسي الآخرة والحساب، فينفرط على صاحب ذلك القلب أمرُه، ويقع في مرديات اتباع الهوى والغفلة، والحسرات، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾[5].
روي عن مولانا الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: “إذا أبصرتْ العين الشهوة عمي القلب عن العاقبة”[6]، ولا يغيبنّ عنكم قول سيّدنا المسيح عليه السلام: “وإيّاكم والنظرة فإنّها تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة، ..”، ونختم هذا الفصل بما رواه الإمام الصادق عليه السلام عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: “طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد لم يره”[7].
طلائع القلوب، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
[1] الآمدي التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص464، والعلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج74، ص284.
[2] محمد بن محمد الشعيري، جامع الأخبار، ص93، الفصل الحادي والخمسون في النظر.
[3] محمد بن محمد الشعيري، جامع الأخبار، ص145، الفصل السابع والمائة، والحاكم في المستدرك، ج4، ص249.
[4] السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الفقاهة، ج1، ص214، المطبعة الحيدرية، النجف.
[5] سورة الكهف، الآية 28.
[6] الآمدي التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص285.
[7] الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان، الإختصاص، ص233.