Search
Close this search box.

سيرتانِ للحاكم

عن أميرِ المؤمنينَ عليٍّ (عليه السلام): «مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً، فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ؛ وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالْإِجْلَالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ»[1].

مِن أعظمِ التعاليمِ الواردةِ عنِ النبيِّ (صلّى الله عليه وآله) وعن أهلِ بيتِهِ الطاهرينَ (عليهم السلام)، الدعوةُ إلى تربيةِ النفسِ وتهذيبِها وتطهيرِها مِن رذائلِ الأخلاقِ، وتحليتُها بمحاسنِ الأخلاق. ومِن طُرُقِ ذلكَ أن يرسمَ الإنسانُ لنفسِهِ مسيرةً تربويةً تبدأُ مِنَ المحاسَبةِ فالمشارَطةِ ثمّ المراقبة.

وتتأكدُ ضرورةُ العنايةِ بتربيةِ النفسِ لِمَنْ وَضَعَ نفسَهُ موضعَ التقدُّمِ بين الناس، حتى يرسمَ للناسِ ما تسيرُ عليه، فيحدّدَ لها ما تقومُ به، سواءٌ أكان ذلك على مستوى الناسِ جمعياً، أم على مستوى مجموعةٍ معيّنةٍ من الناس، فلا فرقَ هنا بين قِلّةِ الناسِ أو كثرتِهم.
والخطوتانِ اللازمتانِ في هذا المجالِ هما:

1. تعليمُ النفس: الخطوةُ الأولى المطلوبةُ لِمَنْ يتصدّى لقيادةِ الناسِ أن يكونَ شديدَ الاهتمامِ بتعليمِ النفس، بمعنى دلالتِها على المعارفِ الصحيحةِ التي تجعلُها مَصونةً عن الوقوعِ في الخطأ، أي إكسابَ النفسِ العصمةَ، والحذَرَ مِن غَلَبَةِ الهوى على العقل، فعنهُ (عليه السلام): «كمْ مِنْ عَقْلٍ أَسِيرٍ تَحْتَ هَوًى أَمِيرٍ».

ولْيدرِكْ تماماً أنه لو تحكّمتْ به شهَواتُه، فإنّ نهايتَهُ الهلاك، فقد وَرَدَ عنِ الإمامِ عليٍّ (عليه السلام): «إيّاكُم وغَلَبَةَ الشَّهَواتِ على‏ قُلوبِكُم؛ فإنَّ بِدايَتَها مَلَكَةٌ، ونِهايَتَها هَلَكَةٌ»[2].

ولذا، فإنّ مِن أصولِ اختيارِ الأشخاصِ لِتولّيهِم مناصبَ، هو أن يكونوا مِمَّنْ عمِلوا على تعليمِ نفوسِهم، ففي وصيّةِ الإمامِ عليٍّ (عليه السلام)  لمالكِ الأشتر: «ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الأُمُورُ، وَلاَ تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ، وَلاَ يَتَمادَى فِي الزَّلَّةِ، وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إذَا عَرَفَهُ، وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَع، وَلاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقصَاهُ؛ أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الأُمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ، مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إطْرَاءٌ، وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ أُولئِكَ قَلِيلٌ»[3].

2. تعليمُ الغيرِ بالسلوك: بأنْ تكونَ طريقةُ تأديبِهِ للناسِ مِن خلالِ ما يرَونَهُ مِن سلوكِهِ قبلَ أن يكونَ ذلك بلسانِه. والصفاتُ الحسنةُ تَظهَرُ مِن خلالِ السلوك، ولذا عندما يُحدّثُنا أميرُ المؤمنينَ (عليه السلامُ) عن عظمةِ أهلِ البيتِ (عليهِمُ السلام)، يخبرُنا عن سلوكٍ يُرشِدُنا إلى كمالٍ مِن كمالاتِهم: «هُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ، وَمَوْتُ الْجَهْلِ؛ يُخْبِرُكُمْ حِلْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ، وَظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ، وَصَمْتُهُمْ عَنْ حِكَمِ مَنْطِقِهِمْ؛ لا يُخَالِفُونَ الْحَقَّ، وَلا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ»[4].

ومِن أهمِّ السلوكاتِ في المتولّي لأمورِ الناس، التي لها تأثيرٌ على سلوكِهم، أن تكونَ سيرتُهُ بينَهُمُ العدلَ والإنصاف، يقولُ (عليه السلام): «وَلاَ يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ؛ فَإِنَّ فِي ذلِكَ تَزْهِيداً لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ فِي الْإِحْسَانِ، وَتَدْرِيباً لِأَهْلِ الْإِسَاءَةِ عَلَى الْإِسَاءَةِ»[5].

وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص480، الحكمة 73.
[2] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص101.
[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص434، الكتاب 53.
[4] المصدر نفسه، ص357، الخطبة 239.
[5] المصدر نفسه، ص430، الكتاب 53.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل