د.أسعد القاسم
منذ فجر التاريخ، والإنسان لا زال يراوح في تعاطي السؤال الديني، في سياق بحث أوسع، يعرًِف هذا الإنسان بذاته وسر وجوده، وصولا إلى ما يصلح بحق، أن يكون غاية نهائية يُمنًي النفس بتتويج حياته بها. ومن الطبيعي أن تطرح الكثير من الرؤى والتفسيرات، التي تختزل الحقائق الكبرى بنظم دينية على مختلف الألوان، لا يخلو بعضها من خزعبلات، يزخر بها التراث الإنساني. ولكن ماذا يعني هذا التقديم في مقام أحداث نكتب عنها فاقت مفاجأتها كل الحسابات؟
تلك هي اللغزية الغزية، فبعد أقل من أسبوع على بداية العدوان الصهيوني، سرعان ما تهافتت الرواية الكاذبة التي روجتها ماكينة الدعاية الغربية حول ما حدث في السابع من اكتوبر، وتدريجيا بدأت تطفو على المنصات الإعلامية مشاهد لا تكذب من واقع الحدث اليومي الغزي، والتي لم تشكل بمجموعها سردية بديلة فحسب، بل ومنظومة تحررية عابرة لكل التوقعات؛ فتصدي الأهالي وصمودهم يفوق أي مقاومة تخطر على بال، وتحمل الغزيين للظلم لم يسمع به الصبر نفسه من قبل، وثقتهم بخالقهم يعجز عن وصفه أبدع البيان، والتفافهم حول قيادتهم لا تستوعبه جميع مفردات الولاء والفداء. كل ذلك في مواجهة عدو لم يُعرَف له وجود إلا في دائرة من الشر المطلق، وقد فاق بطشه آخر الخيال، وصولا إلى نهاية الشيطانية، مما فجر تساؤلات غرد بها المدونون، وضجت بها الصفحات والقنوات، حول ما أصبح يسمى الظاهرة الغزية، والتي توثق لولادة ملحمة أسطورية لا زالت تحاك فصولها، مبشرة بعهد جديد للبشرية، عنوانه العريض؛ الدماء المنتصرة، مصطلحا لم يصح تداوله إلا في نادر المناسبات، وقد تطوع أهلنا في غزة، وبموقفهم الخارق للسكون العربي المميت، تجلية الغموض التاريخي بشأن ما جرى في كربلاء، وكأن الأقدار قررت فجأة، فتح الصندوق الأسود ورفع السرية عن أخطر الحوادث التي سعت إلى إبادة مَن تبقى من آل بيت الرسول، على أيدي السلطة الشيطانية الأموية، في مأساة استشهد فيها الامام الحسين بن علي، ومعه سبعين من مناصريه وذويه، منهم النساء والأطفال، كان يراد منها محو دين محمد من على وجه الأرض، واستبداله بسلفية هجينة تناسلت من مزاوجة الأموية الجاهلية مع التدين الأعرابي، ولكن الحق أبى إلا أن يظهر، حاملا معه هذه الفرصة التاريخية لتصالح الأمة مع نفسها، وما قد يفضي إلى انسجام ماضيها مع حاضرها.
ولقد استفزني مقطع لأحد الوعاظ يفسر البطولة الغزية بحب أهلها دخول الجنة، تمشيا مع الأدبيات السلفية، التي تصور هوس المتدينين بالجنان وما فيها من النعيم والحور الحسان، وبتسطيح مجحف لحقيقة تطلعات المقاومين، وبما لا يليق بتضحيات أهالي غزة العزة. فالترغيب بالجنة والترهيب من النار، كان اسلوبا أوليا وابتدائيا، في تمام الموائمة لبيئة الأعراب القاسية، وتأليفا لقلوبهم، ضمن نطاق عناوين أوسع، ازدهرت لظروف سرعان ما اختلط فيها الأعلى بالأدنى، لم يميز فيها أبيض من أسود؛ ولا داعشي انتحاري في المعابد والأسواق، من مؤمن رهن نفسه لنصرة مسار الفضيلة والشرف.
ولنا أن نسأل؛ هل الجنة كانت الدافع وراء هبة الملايين من ذوي البشرة البيضاء لنصرة الحق الفلسطيني، لا سيما في بعض البلدان الغربية التي يغامر المتضامنون فيها خسران مواقعهم؟
وفي الجانب المقابل، لماذا لم يكن حافز الجنة كافيا لدفع ولو واحد بالمائة من ملايين المصريين للخروج والضغط على السيسي لفتح المعبر؟ لولا أن ترهيب هذا الفرعون، كان أكبر تأثيرا من ترغيب رب فرعون، لا سيما وأن للجنة عندهم، ألف طريق يوصل، والف باب يُدخِل، بدون تكلفة تذكر، ولا تضحية تبذل؛ ولكن من قال ان الغزيين لا يدخلون هذه الجنة لو استسلموا وخنعوا قدوة بالجيران؟ أم أن جنة الغزاوي لا تصح إلا بالحصار والتجويع وهدم الديار، وإبادة كل من في الدار؟ وجنة غيرهم تُدخَل بمجرد الدعاء لأهلنا المحاصربن أن يميتهم الله شهداء؟
ولكن هيهات، وقد صاح لسان حال أهلنا الصامدين، مستنكرين؛ لماذا رخصت جنتهم وارتفع سعرها علينا؟ أم ظنوا أنهم مٌلًاكِها وهم بها يتصدقون؟ أولم يعلموا أن الأرض هي عرضنا، والجنة ولدت من شرفنا، فغدونا لصنعها مجددين، ولغيرنا مصدرين، فعن أي جنة يتكلمون؟
الجنة بين عالمين وخيارين؛ الشرف أو العلف!
تاريخيا، نستحضر في هذا المقام معركة بدر الكبرى مثالا، لم يكن للخسارة فيها مكان، فأنزل ألله ملائكة مردفين، حيث كان النصر المبين. ولكن يقابلها، وفي لحظات معبرة من وقعة أحد، والتي أريد بها تدوين دروس لا يجوز تجاوزها، غلبت رغبات الأعراب السفلى في غنائم دنيا، على توصيات المحافظة على “مواقعهم العليا”، تلك محدودية صلاحية آلة الترغيب، وبما يقرب من مكاسب، يمكن استبدالها عند أول إغراء؛ طبيعة أولية في بني آدم، لم يسلم من اغوائها ابو البشر نفسه، أو هكذا أريد له أن يظهر إلينا بالنموذج النمطي لطينية الخلق، وهشاشتها.
ولهذا راهنت التوجيهات الإلهية على رفع مستوى الوعي عند المؤمنين، ليصبح الحافز أسمى من كل الجنان وثمارها. ولكن هل هناك ما هو أغلى من نعيمها؟ (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) – التوبة 72.
وبالسؤال عن ماهية الرضوان، نجد أنفسنا مدفوعين للتأمل بما يمكن أن يفتح أبوابا للعروج، وقد أُغلقت دونها مدارج سلوك مفترضة، منذ ان استطاب المؤمنين خلط الصلاة الأخشع خلف علي، مع المائدة الأنفع عند معاوية؛ تلك قصة الحياة الدنيا، والتي ركن إلى غرورها أشباه المؤمنين من الأعراب، ومن سار على شاكلتهم إلى يومنا، استبدلوا بها الوعد الإلهي وما لا يمكن أن يخطر على قلب بشر، بحدائق الشام الغناء وما تلهث وراءه اعراب البشر، تحولت جنة الآخرة عندهم، في واقع الحال، إلى مجرد مكافاة إضافية، لا غرابة أن يفضح القرآن سرهم (قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ) الحجرات14.
ذلك هو الفارق بين مؤمن يقول، ومؤمن يكون، كالفرق بين جنة تزول واخرى تدوم، أعلاها تلك التي تجعل المؤمنين متأثرين بشكل مباشر، بكل ما هو أبقى وأعظم، تلك هي جنة الرضوان، جنة ليس لها موقع إلا القلوب المطمئنة، ولا تمثل إلا النموذج الأمثل لإلهام السالكين نحو درجة الوعي الأسمى، يصل معها المؤمن إلى عمل الصالحات، حتى لو كان ذلك يعني التضحية بالنفس والمال، من أجل إقامة الحق والعدل، دون توقع اي مقابل، وقد أصبح عنده فعل الخيرات هو المكافأة بعينها والجنة بخلدها؛ وما ذاك إلا بداية لفك سر التقوى الغامض، بل والمفقود من السردية التفسيرية؛ فهي ليست مجرد الخوف من الله ويا له من تبسيط، وإنما حال يصبح فيه وازع الإنسان نحو الإحسان، يتجاوز الذات الغريزية الباحثة عن البقاء والرخاء، بل ارضاء للذات الروحية، والتي يمكن مقاربتها الى سفارة إلهية في قلوب الصالحين، والتي تجعل المتقي لا يخاف إلا من نفسه، بعد أن أصبح لا يرى وجودا لله، إلا ذاك المتجلي بالحق في كل موقف مشهود، يجعل ردود فعله نحو نصرة القيم العليا من العدل والكرامة والشرف، وعموم كمالات تجليات الأسماء، تلقائيا وبدون أدنى درجة من التفكير (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَاكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ) الحجرات13؛ إنها ملكةً تأسر القلوب، فتُحكِم قبضتها على النفوس، وتجعل وجهتها مسيًرة دون أدنى خيار ملحوظ، وإنما قرار راسخ، ومبدأ مكين، يدفع المؤمن نحو كل حق وعدل وإحسان، لا غرابة أن يعلن القرآن فوز المتقين دون غيرهم، يوم لا ينفع قول ولا زعم، إلا من أتى ألله بقلب سليم.
وفي ذلك لمحات إلى فهم “الإسلام الغزي”، إسلام القيم والمعاني، والذي دافع عنه الإمام الحسين لآخر قطرة من دمه، صارخا في وجه خصومه والمتخاذلين من حوله: “اذا لم يكن لكم دين، كونوا أحرارا في دنياكم”! لا غرابة أن وقف قباله، كما يقف قبال غزة هاشم واهلها الحسينيون هذه الأيام، الشر كله، في معركة مصيرية بين الحق والباطل الأبديين، ومما يحفز الكثير من الأغراب إلى التساؤل، حول سر هؤلاء الفدائيون الجدد، نخبة الله المختارة، وعن لغز تمسكهم بأرضهم ووطنهم، وقد عُرض عليهم أن يختاروا رغيد العيش حيثما شاؤوا من القارات؛ فتراب غزة عند اهلها، لم يختزل الأرض الفلسطينية بقدسها ومساجدها وكنائسها فحسب، بل كل أرض ينشد اهلها الحياة الحرة الكريمة، مما رفع التحدي في الموقف الغزي إلى مستوى الدفاع عن قيم الشرف والعزة بعالميتها، وجعل من تمسكهم بها الشعور بدخولهم الجنة بفردوسها الأعلى ورضوانها، لا يضيرهم كانوا فيها أحياء أو أشلاء، لأن المقاوم الغزاوي، حسب إعادة تعريف المصطلحات في معجم الكرامة، لا يموت أبدا.