إنّ حياة الانسان خليط من الراحة والألم، فكل منهما يستوعب ناحية من العمر المحدود للبشر في هذه الحياة، وكل إنسان يواجه قسماً منهما على حدّ ما له من نصيب، ويقع فريسة بينهما لمشاكل الحياة ومصائبها، وطبقاً لهذه الحقيقة المرة تتأرجح حياة الانسان بين الألم والراحة.
ولا نستطيع نحن أن نغيّر من هذا الناموس الأبدي في هذه الحياة الدنيا حتى تخضعها لما تشاؤه أهواؤنا، ولكنا بعد أن تعرفنا على حقيقة هذه الحياة نستطيع أن نعطف أنظارنا على الجانب الجميل من موجودات هذه الحياة، وأن نزحزح عن أبصارنا تلك الاشكال الكريهة من صور الحياة، في هذا الفضاء الرحيب الذي يزخر ببديع الصنع ولطائف الحكمة، والذي يشتمل كل شيء فيها على معنى من اللطف خاص به مخلوق من أجلسه، او ان نعكس، فننسى ونتناسى تلك النقاط النيّرة والمشعة من الوجود، وأن نتوجّه دائماً الى المواضع المظلمة والجوانب القائمة السوداء منها، وبكلمة لكل أحد أن يوجّه فكرته الى أيّ جهة شاء وأراد، وأن يصوّر الحياة بأيّ لون أحب.
يجب علينا أن نهيّء أنفسنا لمواجهة ما لا يلائمنا مما يسدّ علينا طريق الحياة حتى لا نفقد عندها القدرة على ضبط أنفسنا، والاّ فسنقابل بخسائر لا تجبر، بل ربما نسقط في خضم حوادث الحياة.
قد يتصور بعضنا أن لو كانت حوادث الحياة تجري على غير ما جرت عليه لكانوا سعداء، بينما لا يرتبط شقاؤهم بحوادث الحياة، بل بالكيفية التي يواجهون بها تلك الحوادث، فانّه من الممكن ان يغير الانسان من تأثيرها على الروح بل يكسب المواقف الموفقة من خلالها.
كتب أحد الكتّاب المعروفين يقول: « ان أفكارنا تدور دائماً مدار السخط والكراهية، فعلى أيّ حال نحن شاكون باكون عاتبون، وسبب هذه الشكاوى والبكاء منطو في ضمائرنا، فاننا مخلوقون بكيفيّة يتعذّب وجودنا ممّا لا يلائمه في الجسم او الروح، ترانا كل يوم نتمنى ونأمل شيئاً جديداً، بل ربما لا نفهم ما نريد وما نتمنى، ونظن أنّ السعادة قد حصل عليها الاخرون فتحسدهم او تغبطهم ونتألم، انّنا نشبه الطفل غير المؤدّب الذي يخلق الحجج والمعاذير، ويضجّ بالبكاء والنحيب، وتتألم أرواحنا من ضجيج هذا الطفل وصراخه، ولا نرتاح من صراخ هذا الطفل الا اذا جعلناه يبصر الحقائق بعد ان لم يكن يبصر الا الاهواء، فنمنعه من مشتهياته الهوجاء، انّه على أثر أهوائه الكثيرة قد أصبح لا يرى الاّ سوءاً فيجب علينا أن نفتح عينه على جوانب الخير في هذه الحياة، يجب علينا أن نفهمه أنّه انّما يحظى باقتطاف الاوراد والزهور من حديقة هذه الحياة من كان يفتح عينه عليها ويبصرها، ومن كان أعمى فانه سوف لا يحظى من الحديقة الا بأشواكها . نحن لو تجاوزنا الضجر وسوء النظر، ونظرنا بعين التحقيق، لرأينا أنّه في كل عهد وحتّى في هذا العصر الذي قد وقع في هوة سحيقة مهولة، والذي تنقلب فيه حياتنا في كل ساعة رأساً على عقب ويختلط فيه السليم والسقيم والحابل والنابل ـ رأينا أنّ هناك في بستان هذه الحياة في كلّ مكان أوراداً ورياحين تدعو عيون الناظرين الى نفسها في كل زمان».
إن للأفكار أثر عميق في سعادة الانسان، بل ان العامل الوحيد المؤثّر في سعادة الانسان هو مدى عقله وفكره، فالحادث غير العادي في نظر المتشائم يصبح كبيراً قاصما للظهر لا يتحمّل، اما المتفائل في الحياة الذي ينظر اليها بنظرة حسنة فهو يعتمد في هذه الالام التي لا تجتنب الى اصل ( التسليم )، فهو لا يفقد مقاومته حتى في أشد المصائب والهموم، ولا يخرج عن حد الاعتدال والتوازن والتماسك والصبر.
إن الذين اعتادوا أن يعتقدوا انّ محور الشرّ يتركّز حولهم قاصداً اليهم، سوف لا يعيشون الا عيشة مؤلمة مظلمة قائمة ومكفهرّة، وسوف يفقدون على أثر حسّاسيتهم البالغة في الحوادث كثيرا من قواهم وطاقاتهم هباء منثوراً، وسوف يبقون في غفلة سادرة عمّا حولهم من مواهب هذا العالم وبركاته المحيطة بهم وهم لا يشعرون.
يقول أحد العلماء: «ان الدنيا تدين الانسان كنا يدينها وتعامله بالمثل تماماً، فان تضحك لها تضحك لك، وان تقطب عليها تقطب عليك، ان استعملت الفكر ألحقتك بالمفكرين، وإن كنت رحيماً صدوقاً وجدت حولك أناساً يحبونك وقد فتحوا لك ما في قلوبهم من كنوز المحبّة والوداد».
إن الآلام مهما كانت بظاهرها مرّة غير مستساغة، لكنها تنتج للروح والفكر ثمارها الخاصة، فإن الطاقات الروحية للانسان تتجلّى في قتام الآلام أكثر فأكثر، وإن العقل والروح الانساني يتكاملان في طيّ هذه التضحيات المستمرة والسعي الدائم والأخذ والرد الممتد… الى قمّة الكمالات الانسانيّة الممكنة.
أما أضرار النظرة المتشائمة فإن النظرة المتشائمة هي أحد الأمراض الروحيّة الخطيرة، وهي منبع كثير من الخسران والضياع والشرود وخيبة الأمل، وهي شقاء مؤلم معذب للروح الانسانية، وانّ آثارها السيّئة على الشخصيّة الانسانية لا تمحى.
إنّ الآلام والمحن مواسم حسّاسة يمكن أن تنشأ عنها النظرة المتشائمة على أثر ثورة شديدة في العواطف والأحاسيس، إن النظرة المتشائمة التي تنبت في الفكر من هذا الطريق تؤثر أثرها المرّ غير المرضيّ في أفكار الإنسان.
انّه لا يتجلى جمال الخلقة في عين من تكدّرت مرآة روحه بقتام التشاؤم، وليس هذا فحسب، بل حتّى السعادة تظهر له وقد بدّلت صورتها الى ملال ونكبة وانّه بسوء ظنه لا يستطيع أن يتصور عمل أيّ شخص بريئاً عن الاغراض المريضة، ان هؤلاء الذين أصبحت أفكارهم سلبيّة سوف لا يبقى لديهم أيّة طاقة ايجابيّة، فانّهم بأوهامهم يخلقون لأنفسهم ما شاؤوا من المشاكل، ويهدرون طاقاتهم بالتفكير حتى في الحوادث التي لم يصابوا بها بعد ولا يصابون، وكما أنّ آثار النظرة المتفائلة والخلاّقة تسري الى من حولها، فتحيي فيهم عظيم روح الأمل، كذلك النظرة المتشائمة تلقّن من حولها الألم والاضطراب، وسوف تسلبهم مصباح الأمل الذي يضيء درب الحياة للسالكين.
كما أن الاثار السيّئة للتشاؤم لا تقتصر على الروح فحسب، بل تؤثر حتّى في الجسم أيضاً، فتؤخّر شفاء الامراض، يقول احد كبار الأطبّاء « انّ علاج من يسيء الظن بكلّ شيء وكل شخص، أصعب بكثير من محاولة انقاذ من يلقي نفسه في البحر مصمّماً على الانتحار وإنّ اعطاء الدواء لمن يعيش في قلق واضطراب دائم في الحياة كمثل أن يريق أحدنا الماء في الزيت المغلّى على النار، فانه لابد في تأثير أيّ دواء أن يكون المريض المعالج محتفظا بروح الرضا والطمأنينة والاعتماد.
إن من يصاب بسوء الظن يرى منه حالة الانزواء والحذر من معاشرة الاخرين بشكل واضح، وانّه على أثر هذه الحالة غير المرضيّة سوف يحطم ما في نفسه من استعداد للتقدّم والاطّراد، وسوف تقدّر له عيشة غير مرضيّة . انّ سوء الظن احد عوامل الانتحار، فان العزم على الانتحار ينشأ غالباً من سوء الظن بالحياة.
ونحن اذا عطفنا النظر الى حيث شئنا من المجتمع البشري شاهدنا أنّ أكثر أحاديث الناس بعضهم في بعض تابع من سوء الظن بدون أيّ مطالعة أو تأمّل، فانّهم مع ما هم عليه من ضعف في الموازنة والحكم يقطعون في أحكامهم على الاخرين قبل أنّ يطمئنّوا الى علم بالموضوع، فيصدّقون بلا تصور، وقد يتعرّف الانسان على اغراضهم الشخصيّة من خلال كلامهم . ان هذا العيب الكبير يسبب انقطاع أواصر الوحدة والألفة القلبية، ويسلب من الناس حسن اعتماد بعضهم على بعض، ويفسد أخلاقهم بل أرواحهم أيضاً.
ننتقل الآن الى مكافحة الإسلام للتشاؤم إنّ القرآن الكريم صرّح بعد التشاؤم وسوء الظن من الذنوب والمعاصي وحذّر المسلمين من سوء ظن بعضهم ببعض فقال « يا ايها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن، إن بعض الظن إثم».
إن الدين الإسلامي منع الناس من سوء الظن من دون برهان قاطع عليه: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وأن يسيء الظن به».
فكما يحرم الحكم بنقل مال امرئ الى آخر من دون دليل كاف كذلك لا يهوّن أن نسيء الظن بالناس فنتهمهم بالشر والسوء قبل ثبوت ذلك بدليل قاطع : قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): « ليس من العدل القضاء على الثقة بالظن ثم يبين أضرار سوء الظن ومفاسده بعبارة بديعة وبيان ساحر فيقول : « إياك أن تسيء الظن، فإن سوء الظن يفسد العبادة، ويعظم الوزر”، ثمّ يعدّ سوء الظن بالمحسنين من الظلم: « سوء الظن بالمحن شر الإثم وأقبح الظلم»، ويعدّ سوء الظن بالأحباء سبباً لقطع الأواصر وتوتر العلاقات، فيقول (عليه السلام): « من غلب عليه سوء الظن لم يترك بينه وبين خليله صلحاً».