إذا كانت الثورة الإسلامية التي حدثت منذ 45 سنة تُعدّ حدثاً مفصلياً في المسار الإنساني، فإنّ التعبئة بصفتها مدرسة وفكراً وروحاً وممارسة هي من أهم أركان هذه الثورة.

مهما تعددت واختلفت الاتجاهات والمذاهب والتيارات في العالم، فإنّها اتفقت على أنّ الثورة الإسلامية الإيرانية كانت من أهم أحداث القرن الماضي، وتعدى تأثيرها الجيو-إستراتيجي حدودها التقليدية. إنّ رؤيتنا للثورة في بُعدها الأيديولوجي أعمق بكثير من منظار «الواقعية السياسية» (real politics)، فالثورة الإسلامية في مسار تحقيق الاستخلاف الذي خلق الله من أجله الإنسان والوجود هي من أهم الأحداث التاريخية إطلاقاً منذ خلقة آدم.

لقد ارتكزت الثورة إلى ركنين أساسيين: أحدهما الإمام الخميني الراحل بمنظاره الفكري وقيادته، والركن الآخر هو الشعب الاستثنائي الذي صنع هذه اللحظة التاريخية.

مارس الإمام الفقيه دوره العملي على نحو مختلف عن المسار الإجمالي لفقهاء الشيعة، إذ قارب مفهوم الولاية على أنّها المحور والركيزة التي تستند إليها المفاهيم والقيم والشعائر كلها، ولذلك إنّ وظيفة الفقيه ممارسة الولاية على أوسع نطاق ليتمكّن من أداء وظائفها الأخرى كافة. وكان يثق أنّ الشعب المؤمن سيلتزم ولاية الله التي تتجلى في ولاية الفقيه استناداً إلى فهم عميق للشعب وتجربته المتراكمة.

أوضح الإمام الخامنئي في أصول الفكر الإسلامي على ضوء القرآن الكريم معنى الولاية وأنّها تماسك الشعب وتوثّقهم بالولي. هذا معنى عميق جداً يرتبط بمشروع الاستخلاف الإلهي وفهم الغيبة المهدوية ووظيفة الناس تجاه صاحب الزمان – أرواحنا لتراب مقدمه الفداء – وهو ما يعبّر عنه بتوقيعه الشريف إلى الشيخ المفيد – رضوان الله عليه -: «ولو أنّ أشياعنا وفّقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب [في الوفاء بالعهد]، ما تأخر عنهم اليُمن بلقائنا ولتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا». اجتماع القلوب وتماسك المجتمع يجعل منه لُبنة واحدة يمكن بانقيادها للإمام المعصوم أن تتحقّق العصمة للمجتمع. إذا كان المجتمع متماسكاً ومتوثّقاً بإرادته بالولي المعصوم، فإنه يصير معصوماً، وستتحقّق الخلافة لله.

ميزة هذا الفكر الخميني أنّه تمكّنَ من تحويله إلى ممارسة ناجحة، وأوجد تحولاً هائلاً في الفكر والممارسة العمليين. نظّر بعمق لمفهوم الولاية خلال سنوات الثورة، وبعد انتصارها أعلن أنّ حماية الثورة وتحقيقها أهدافها يكونان بتماسك الشعب وحضوره الدائم في الميدان، فابتكر التعبئة.

«التعبئة من أهم إبداعات الإمام الخميني الراحل (رض)»، تكررت هذه العبارة في معظم خطابات الإمام الخامنئي – دام ظله – التي تناول فيها مفهوم التعبئة. لقد تعمق الإمام الخامنئي في فهم مرتكزات الفكر الثوري للإمام الخميني، وعبّر عنها بأسلوب مذهل في محاضراته التي ألقاها في مشهد المقدسة وطهران ما بين أعوام 1969 و1973. إنّها تعبر عن طفرة فكرية حقيقية وتنظير لأبعاد الثورة التي كان يؤمن بانتصارها.

واظب الإمام الخامنئي على الاعتناء بالتعبئة منذ إعلان الإمام الخميني تأسيسها عبر اللقاءات والبيانات السنوية منذ 1980، التي لم تتوقف سوى في سنوات قليلة إبان الحرب المفروضة، وكان يُظهر رهانه على التعبئة على أنها درع الثورة والنظام الإسلامي. إنّها الفكر والممارسة المشبعان بالإيمان والإخلاص والعطاء دون مقابل. إنّها الحضور الدائم في الميدان دون وهن أو تعب. إنّها المبادرة والروح المتوثبة للبناء وإصلاح الخلل دون انتظار تأمين المتطلبات من الجهات المعنية. إنّها ثقافة البذل وروح التضحية… التعبئة تعبّر عن كل القيم الإسلامية السامية.

لقد تشوهت في العصر الإسلامي الأول الرسالة والقيم المحمدية، فاستحقَّ إحياؤها شهادة سبط الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين – عليه السلام – الذي أضاء بدمه مصباح الهدى والحق، وعمل أئمتُنا – عليهم السلام – طوال حياتهم على منع إطفاء هذا المصباح والمحافظة على توهّجه. رغم ذلك، لم تكلّ الحكومات التي حكمت باسم الإسلام طوال قرون عن تقديم صورة مشوهة للقيم المحمدية. أعاد الإمام الخميني التوهّج للقيم المحمدية التي تتجلى في شخصية المؤمن الحقيقي، وأعطاه وصفاً جديداً هو «التعبوي». إذاً التعبئة هي التعبير العملاني عن الإسلام المحمدي الأصيل.

«التعبوي يعني عليّاً عليه السلام الذي وقف كلّ وجوده للإسلام»[1]؛ لا يضيء الإمام الخامنئي – دام ظله –  بهذا الوصف على النموذج الأكمل فحسب، وإنما يكشف عن حقيقة مفهوم التعبئة وعمقه. بهذا المعنى، نفهم مقولة الإمام الراحل – رضوان الله عليه -: «إنّ أكثر ما أفخر به هو أنني تعبوي» و«أطلب من الله تعالى أن يحشرني مع أحبائي التعبويين».

لقد تحدث الإمام الخامنئي – دام ظله – عن نماذج متعددة من التعبئة مثل الشهيد شمران وهمت وباقري وغيرهم… هم نماذج تعبوية متألقة، كما تحدث عن كثير من النماذج التعبوية قبل الثورة، كانوا يعبّرون عن فهم عميق لدورهم في تحقيق المعرفة وممارستها. كانت الثورة هي النتاج التراكمي لجهود هؤلاء.

ولكنّ النموذج الأكثر توهجاً للتعبئة هو من رآه الشباب بأعينهم وتجسد في الشهيد الأممي الملهم الحاج قاسم سليماني، رضوان الله عليه.

لقد تجلت الأوصاف الحقيقية لمفهوم التعبئة بأكمل وأجلى صورة في شخصية الحاج قاسم. وتجلّت النموذجية التعبوية للحاج قاسم في شجاعته البطولية وتدبيره المتقن وروحيته العالية.

يصفه الإمام الخامنئي – دام ظله -: «كان يمتلك رباطة الجأش. يقع في فوّهة الخطر غير آبه منذ قيادته لواء “ثار الله” في سنوات “الدّفاع المقدّس”. كان صاحب تدبير ومنطق في أعماله المختلفة، وفي المجال السياسي أيضاً. يتمتع بالدراية والذكاء والفطنة والاستشراف. كان مخلصاً ينفق أداتي الشجاعة والتدبير هاتين في سبيل الله. كان من أهل المعنويّة حقاً، وليس من المتظاهرين بذلك. كان إنسانياً ويضحّي بنفسه حقاً من أجل الجميع. كان ملتزماً الثّورة أشدّ الالتزام، والخطّ المبارك النوراني للإمام الخميني الراحل. لقد كان أنموذجاً بارزاً للناهلين من فيض الإسلام ومدرسة الإمام الخميني، فقد أمضى جُلّ عمره في الجهاد في سبيل الله. الشّهادة كانت جزاء مساعيه الحثيثة طوال هذه الأعوام كلّها».

إنّ قيمة النمذجة التعبوية تكمن في ترجمتها المفهوم بصورة واقعية ومنظورة، وتجعله في أعين الشباب قابلاً للتحقق. لسنا أمام توصيف للمُثل والقيم في معزل عن الواقع. التعبئة تجلٍّ مفهوميّ للفردية والمجتمعية معاً بما يحقق هدف الاستخلاف. التعبئة هي الانتظار العملي والتمهيد، والركن الأساسي من أركان الولاية التي لم يُنادَ بشيءٍ كما نوديَ بها.


[1] كلمة الإمام الخامنئي في لقاء مع مداحي أهل البيت (ع)، 03/09/1373.