عنِ الإمامِ الكاظمِ (عليه السلام) لِهِشامِ بنِ الحَكَم: «يا هِشام، إنَّ العُقَلاءَ زَهِدوا فِي الدُّنيا، ورَغِبوا فِي الآخِرَةِ؛ لأَنَّهُم عَلِموا أنَّ الدُّنيا طالِبَةٌ مَطلوبَةٌ، وَالآخِرَةَ طالِبَةٌ ومَطلوبَةٌ، فَمَنْ طَلَبَ الآخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنيا حَتّى يَستَوفِيَ مِنها رِزقَهُ، ومَن طَلَبَ الدُّنيا طَلَبَتهُ الآخِرَةُ، فَيَأتيهِ المَوتُ فَيُفسِدُ عَلَيهِ دُنياهُ وآخِرَتَهُ»[1].
مِنْ تراثِ الإمامِ موسى بنِ جعفرٍ الكاظمِ (عليه السلام) وصاياهُ لتلميذِه المعروفِ هشامِ بنِ الحكم. وفي هذهِ الوصيّةِ يُرشِدُه الإمامُ إلى صفةٍ منْ صفاتِ العقلاء، وهمُ الذينَ انقادوا لعقولِهم، وغَلبُوا بذلكَ أهواءَهم، فلمْ تتحكَّمْ بهِم رغباتُهم وميولُهمُ الدنيويّة، وعلامةُ ذلكَ هوَ عدمُ تعلُّقِهِم بهذهِ الدنيا، بلْ زهدُهم فيها، واشتياقُهم إلى الآخرةِ ورغبتُهم فيها. وسببُ امتيازِهم بذلكَ هوَ المعرفةُ والعلمُ والإحاطةُ بحقيقةِ هذهِ الدنيا، وبحقيقةِ الآخرة.
وتتمثَّلُ هذهِ الحقيقةُ بأنَّ الناسَ في هذهِ الدنيا على صنفَين:
1ـ طالبُ الآخرة: وهوَ الذي عرَفَ أنَّ دارَ البقاءِ أَولى بالسعيِ إليها منْ دارِ الفناء. ويصفُ الإمامُ الكاظمُ (عليه السلام) هؤلاءِ في وصيَّةٍ أُخرى له لِهِشامِ بنِ الحَكَم، فيقول: «يا هِشام، إنَّ العاقِلَ نَظَرَ إلى الدُّنيا وإلى أهلِها، فَعَلِمَ أنَّها لا تُنالُ إلَّا بِالمَشَقَّةِ، ونَظَرَ إلى الآخِرَةِ، فَعَلِمَ أنَّها لا تُنالُ إلَّا بِالمَشَقَّةِ، فَطَلَبَ بِالمَشَقَّةِ أبقاهُما»[2].
ويصِفُهُم أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) في كلامٍ لهُ في نهجِ البلاغة: «وَعَامِلٌ عَمِلَ فِي الدُّنْيَا لِمَا بَعْدَهَا، فَجَاءَهُ الَّذِي لَهُ مِنَ الدُّنْيَا بِغَيْرِ عَمَلٍ، فَأَحْرَزَ الْحَظَّيْنِ مَعاً، وَمَلَكَ الدَّارَيْنِ جَمِيعاً، فَأَصْبَحَ وَجِيهاً عِنْدَ اللهِ، لاَ يَسْأَلُ اللهَ حَاجَةً فَيَمْنَعُهُ»[3].
وقدْ وردَ عنِ النبيِّ محمَّدٍ (صلّى اللهُ عليه وآلِه) قولُه في خطبةِ حِجَّةِ الوداع: «… إِنَّ الرُّوحَ الْأَمِينَ نَفَثَ فِي رَوعِي أَنَّهُ لَا تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ شَيْءٍ مِنَ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالى قَسَمَ الْأَرْزَاقَ بَيْنَ خَلْقِهِ حَلَالاً، وَلَمْ يَقْسِمْهَا حَرَاماً، فَمَنِ اتَّقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَصَبَرَ، أَتَاهُ اللَّهُ بِرِزْقِهِ مِنْ حِلِّهِ، وَمَنْ هَتَكَ حِجَابَ السَّتْرِ وَعَجَّلَ، فَأَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، قُصَّ بِهِ مِنْ رِزْقِهِ الْحَلَالِ، وَحُوسِبَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[4].
2ـ طالبُ الدنيا: وهوَ الذي تعلَّقَ قلبُهُ بها، فآثَرَها على الآخرة. ولمَّا كانتِ الآخرةُ مصيراً حتميَّاً، تبدأُ لحظةَ حلولِ الأَجَل، فإنَّ لحظةَ الأَجَلِ تكونُ بالنسبةِ إلى طالبِ الدنيا شرَّاً؛ لأنَّها تُفسِدُ عليه ما يطلبُه، فهو ينسى الآخرةَ مَعَ أنَّه يسيرُ إليها. وفي وصيَّةِ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «اعْلَمْ، يَا بُنَيَّ، أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا، ولِلْفَنَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ، ولِلْمَوْتِ لَا لِلْحَيَاةِ، وأَنَّكَ فِي قُلْعَةٍ ودَارِ بُلْغَةٍ، وطَرِيقٍ إلى الآخِرَةِ، وأَنَّكَ طَرِيدُ الْمَوْتِ الَّذِي لَا يَنْجُو مِنْه هَارِبُه، ولَا يَفُوتُه طَالِبُه، ولَا بُدَّ أَنَّه مُدْرِكُه، فَكُنْ مِنْه عَلَى حَذَرِ أَنْ يُدْرِكَكَ وأَنْتَ عَلَى حَالٍ سَيِّئَةٍ، قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ، فَيَحُولَ بَيْنَكَ وبَيْنَ ذَلِكَ، فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ»[5].
ختاماً، نُعزِّي صاحبَ العصرِ والزمانِ (عجَّلَ اللهُ تعالى فرَجَه الشريف)، ووليَّ أمرِ المسلمين، والمجاهدينَ جميعاً، بذكرى شهادةِ الإمامِ موسى بنِ جعفرٍ الكاظمِ (عليه السلام) في الخامسِ والعشرينَ مِن رجب، عامَ 183 للهجرة.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص18.
[2] المصدر نفسه.
[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص522، الحكمة 269.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج5، ص80.
[5] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص400، الكتاب 31.