أجمل ما يمكن أن يستقبل الإنسان به شهر رمضان المبارك هو خطبة رسول الله (ص)، فكلّ ما يمكن أن يقال في هذا الشهر العظيم، وكلّ ما يمكن أن يُدعى إلى العمل فيه نجده في خطبته (ص) كخطبة جامعة لهذه التوجيهات والمعاني والمفاهيم، وإن كان مضمون هذه الخطبة موجود في روايات متفرّقة، سواءً في كتب الشيعة أو كتب السنّة؛ لكنّ ميزة هذه الخطبة أنّها جامعة للمعاني التي يريد أن يحدّثنا عنها رسول الله (ص) وأيضاً للتوجيهات والإرشادات العمليّة التي يدعونا إليها. والتالي هذا الخطاب هو خطاب ممتدّ لكلّ الناس، في زمن رسول الله (ص) وإلى قيام الساعة؛ لأنّه خاتم النبيّين والرسل، ودينه ورسالته هي الرسالة الخالدة والباقية إلى قيام الساعة.
هذه الخطبة موجودة في العديد من الكتب، لكنّ النصّ الذي سأقرأه موجود في كتاب مفاتيح الجنان للشيخ عبّاس القمّي، يقول: روى الشيخ الصدوق (رحمه الله) –وهو من كبار علمائنا وفقهائنا- بسندٍ معتبر عن الإمام الرضا (ع) عن آبائه (عليهم السلام)، عن أمير المؤمنين (ع) قال: إنّ رسول الله (ص) خطبنا ذات يوم، وقال:
– «أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ».
المقطع الأول، في الحقيقة، هو مقطع تعريفٍ لشهر رمضان من قِبَل رسول الله (ص)، بمعنى أنّه يرتبط بالجانب المعرفيّ، معرفتنا، وفهمنا، ووعينا. فما هو شهر رمضان؟ ومن هو شهر رمضان؟ ما هي قيمته ومنزلته؟ ما هي ميّزاته وخصائصه؟ قبل أن نذهب إلى الجانب أو الإرشاد العملي على الإنسان الذي يفهم ويعرف بشكل عميق وقويّ قيمة الزمان أو المهلة الزمنيّة التي يعيشها بالتأكيد سوف يتصرّف مع هذه المهلة الزمنيّة بشكل مختلف، وإذا كانت لا تعني له شيئاً فهو سيدير لها ظهره، وإذا كانت ذات قيمة عالية جدّاً فسوف يستفيد منها أقصى الاستفادة، سواء كانت ساعات أو أيّام، أو ليالي، أو شهور أو ما شاكل.
إذاً، في المقطع الأوّل، النبيّ (ص) يُعرفنا بشهر رمضان الذي دخلنا في أيّامه.
«شَهْرُ اللهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ»، بمعنى هذا الشهر، ماذا أحضر معه؟ أحضر البركة في مجالاتها كلّها، والرحمة الإلهيّة، وغفران الذنوب، أيّاً تكن هذه الذنوب، وأيّاً يكن هؤلاء العاصون.
– «شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اللهِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ الأَيَّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اللَّيَالِي، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ».
هذا تقييم شهر، فمنذ أن خلق الله سبحانه وتعالى الشمس والقمر والأرض والنجوم والكواكب وهذا النظام الشمسي وهذا الكون، نقول أنّه خلق الزمان والمكان. والتقدير الإلهي في خلقه للزمان، جعل الزمان هكذا، ليل ونهار، لذلك الآيات القرآنيّة دائماً ما تتحدّث عن الليل والنهار، والأيام والليالي، والشهور، والله سبحانه وتعالى جعل عدّة الشهور اثنا عشر شهراً. فإذاً، لدينا اثنا عشر شهراً، والشهر ثلاثون يوماً أو تسع وعشرون يوماً –بحسب القمري-، واليوم والليل معلوم على مدار الشمس ودوران الأرض وما شاكل؛ فمن الاثني عشر شهراً، ما هو أفضل شهر عند الله سبحانه وتعالى؟ هو شهر رمضان، بلا نقاش. ما هي أفضل الأيام والليالي والساعات؟ بالتأكيد أيام وليالي وساعات شهر رمضان المبارك. نحن الآن دخلنا في الشهر الذي هو أفضل شهر من الشهور عند الله، في الأيام والليالي والساعات، فهو الذي خلقها وهو الذي يعطيها هذه القيمة الرفيعة والعالية.
– «هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ».
هذا أيضاً جانب في معرفة شهر رمضان عالٍ جدّاً، ورفيع وعظيم جدّاً. الله سبحانه وتعالى دعا عباده في مثل هذه الأيام والليالي ليكونوا ضيوفه، إذاً هم الآن ضيوف الله سبحانه وتعالى. عادةً، الحجّاج إلى بيت الله الحرام، يسمّونهم ضيوف الرحمن، وهم يذهبون إلى مكّة للقيام بالمناسك والشعائر مضافاً إلى التعب والسفر والجهد.. إلى آخره، بينما شهر رمضان هو للناس كلّها، للمستطيع وغير المستطيع، وحيث هم في قراهم، وأحيائهم، وبيوتهم، وبلدانهم، كلّهم مدعوون إلى ضيافة الله سبحانه وتعالى ابتداءً من اللحظة الأولى لهلال شهر رمضان المبارك. إذاً، أنتم ضيوف الله، يعني ضيوف الأعظم، والأغنى، والأكبر، والأقدم، والأقدر، والأجود، والأرحم، والأعلم وكلّ ما يمكن أن يُذكر من صفات عظيمة لله سبحانه وتعالى. هو الله العظيم، الحكيم، العليم، الحكيم، الجواد، الغنيّ، المعطي، والذي نقرأ أسمائه وخصوصاً في دعاء الجوشن الكبير، نحن الآن ضيوفه، ضيوف ملك الملوك، ربّ الأرباب، عظيم العظماء، كلنّا ضيوفه سبحانه وتعالى -صغيرنا وكبيرنا، حرّنا ومملوكنا، رجالنا ونسائنا، ذكرنا وأنثانا- في هذه الأيام المباركة.
– «وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللَّهِ».
هؤلاء الذين يُقبلون على هذه الضيافة، سيكونون من أهل كرامة الله سبحانه وتعالى، وتصوّروا أن يكرمنا الله بما عنده وما عنده، فهذا شيء عظيم وجليل وكبير.
– «أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ».
من خصوصيّات هذا الشهر –بعد العيد لن تعد موجودة، طبعاً-، ومن عظمة هذا الشهر أنّ الأنفاس التي هي عمل طبيعيّ، ولا إراديّ، إن كان في استيقاظك أو نومك، يعتبر الله سبحانه وتعالى أنّ فيها تسبيحكم، فأنفاسكم على مدار ليالي وأيام وساعات هذا الشهر العظيم، تسبيح ولها أجر التسبيح، فهل يوجد كرم وجود وعطاء من الله سبحانه وتعالى أكثر من هذا؟
– «وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ».
طبعاً، هنا إذا استمرّ في النوم طيلة الوقت، فلن يكون النوم عبادة، بل هو نوع من الكسل والفشل والله سبحانه وتعالى لا يحبّ هؤلاء، بل المقصد من النوم الطبيعي أي النوم الذي يحتاجه بشكل طبيعي، هذا النوم الذي هو في حدود الطبيعة هو عند الله سبحانه وتعالى عبادة، في الوقت الذي يكون بالنسبة إلينا استراحة، دون القيام بأيّ جهد، بل نائمون. وهذا من كرم الله سبحانه وتعالى في هذا الشهر.