يقول أرباب القلوب: “إنّ الدنيا مزرعة الآخرة”. لذا يشبِّهون قلب الانسان المؤمن بالأرض، والإيمان بالبذر فيها، والطاعات جارية مجرى تقليب الأرض وتطهيرها، ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها. أمّا قلب الإنسان غير المؤمن المستغرِق في الدنيا، فهو كالأرض السبخة (الصلبة واليابسة) الّتي لا ينمو فيها البذر.
بالتالي فإنّ يوم القيامة هو يوم الحصاد، ولا يحصد أحدٌ إلاّ ما زرع في الدنيا، ولا ينمو زرع إلاّ من بذر الإيمان، ولا ينفع إيمان مع خُبث القلب وسوء أخلاقه، كما لا ينمو بذر في أرض سبخة.
ولهذا ينبغي أن يُقاس رجاء العبد للمغفرة برجاء صاحب الزرع، فكلّ من طلب أرضاً طيّبة وألقى فيها بذراً جيّداً غير عفن ولا مسوِّس، ثم أمدّه بما يحتاج إليه وهو سياق الماء إليه في أوقاته ثم نقّى الأرض من الشوك والحشيش، وما يمنع نبات البذر أو يُفسده، ثم جلس منتظِراً من فضل الله رفع الصواعق والآيات المفسدة إلى أن يُثمر الزرع ويبلغ غايته، سُمِّي انتظاره رجاء. وأمّا إن بثّ البذر في أرض صلبة سبخة مرتفعة لا ينصبّ الماء إليها، ولم يُشغل بتعهّد البذر أصلاً ثم انتظر حصاد الزرع يُسمّى انتظاره حمقاً وغروراً، لا رجاء. وإن بثّ البذر في أرض طيّبة ولكن لا ماء لها، وينتظر مياه الأمطار حيث لا تغلب الأمطار ولا يمتنع، سُمّي انتظاره تمنّياً لا رجاء([1]).
إذاً نستنتج أن العبد المؤمن هو من بذر في قلبه بذور الإيمان، وسقاها بماء الطاعة الخالصة، وطهّر القلب من المفسدات والموانع مثل العجب والرياء وأمثالهما الّتي تُعدّ بمثابة الأعشاب الضارّة العائقة لنموّ الزرع، ثمّ انتظر فضل الله ورجاءه أن يثبّته على الحقّ حتّى آخر نفس في حياته، وأن يجعل عاقبته حسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة، بذلك يكون انتظاره رجاء حقيقيّاً محموداً ومستحسناً، يقول تعالى: ﴿إِنّ الّذِين آمنُواْ والّذِين هاجرُواْ وجاهدُواْ فِي سبِيلِ اللهِ أُوْلـئِك يرْجُون رحْمت اللهِ واللهُ غفُورٌ رّحِيمٌ﴾([2]). عن الحسن بن أبي سارة قال: سمعت أبا عبد الله الصادق عليه السلام يقول: “لا يكون المؤمن مؤمناً حتّى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتّى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو”([3]).
بينما العبد الّذي انقطع عن بذر الإيمان وتعهّده بسقيه من ماء الطاعات، أو ترك القلب مشحوناً برذائل الأخلاق وانهمك في طلب لذّات الدنيا، وفيما يكرهه الله، ولا يذمّ نفسه عليه، ولا يعزم على التوبة والرجوع، فرجاؤه المغفرة حمق كرجاء من بثّ البذر في أرض سبخة وعزم على أن لا يتعهّده بسقي ولا تنقية ثمّ انتظر المغفرة فانتظاره حمق وغرور، قال تعالى: ﴿فخلف مِن بعْدِهِمْ خلْفٌ ورِثُواْ الْكِتاب يأْخُذُون عرض هذا الأدْنى ويقُولُون سيُغْفرُ لنا…﴾([4]). وفي الكافي باسناده عن ابن أبي نجران، عمّن ذكره، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: “قلت له: قوم يعملون بالمعاصي ويقولون نرجو، فلا يزالون كذلك حتّى يأتيهم الموت، فقال: هؤلاء قوم يترجّحون (الترجّح: الميل، يعنى مالت بهم عن الاستقامة أمانيهم الكاذبة) في الأماني، كذبوا، ليسوا براجين، إنّ من رجا شيئاً طلبه ومن خاف من شيء هرب منه”([5]).
تعادل الخوف والرجاء عند المؤمنين
إنّ الخوف ليس ضدّ الرجاء، بل هو رفيق له وباعث آخر بطريق الرهبة، كما أنّ الرجاء باعث بطريق الرغبة. فلا بدّ أن يكون العبد دائماً بين الخوف والرجاء في دار الدنيا، لا يغلب أحدهما على الآخر، بل يكونان متساويين لا إفراط أو تفريط فيهما، قال الإمام عليّ عليه السلام: “خير الأعمال اعتدال الرجاء والخوف”([6]) وقال الإمام الصادق عليه السلام: “كان أبي عليه السلام يقول: ليس من عبد مؤمن إلّا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء. ولو وُزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم يزد على هذا”([7]).
إذ لو رجح الرجاء لزم الأمن وهو في غير موضعه، قال تعالى: ﴿أفأمِنُواْ مكْر اللّهِ فلا يأْمنُ مكْر اللّهِ إِلاّ الْقوْمُ الْخاسِرُون﴾([8]). ولو رجح الخوف لزم اليأس الموجب للهلاك، قال سبحانه: ﴿… ولا تيْأسُواْ مِن رّوْحِ اللّهِ إِنّهُ لا ييْأسُ مِن رّوْحِ اللّهِ إِلاّ الْقوْمُ الْكافِرُون﴾([9]).
يُعلِّق الإمام الخمينيّ قدس سره على هذه المسألة، قائلاً: “… يرى الإنسان نفسه في منتهى النقص والتقصير، ويرى الحقّ في منتهى العظمة والجلال، وسعة الرحمة والعطاء، ويعيش العبد بين هاتين النظرتين دائماً في حال متوازية بين الخوف والرجاء. وحيث إنّ الأسماء الجلاليّة والجماليّة تتجلّى في قلب السالك بصورة متعادلة لا يترجّح كلٌّ من الخوف والرجاء على الآخر”([10]).
* مظاهر الرحمة، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
([1]) بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج67، ص352 ـ 355.
([2]) البقرة: 218.
([3]) الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص71.
([4]) الأعراف: 169.
([5]) الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 68، ح5.
([6]) ميزان الحكمة، الريشهري، ج1، ص 826، ح 4.
([7]) وسائل الشيعة، ج15، ص216، ح1.
([8]) الأعراف: 99.
([9]) يوسف: 87.
([10]) الأربعون حديثاً، ح14، ص278.