Search
Close this search box.

الإمام الرضا (عليه السلام) وعصر التعددية الثقافية

الإمام الرضا (عليه السلام) وعصر التعددية الثقافية

لقد رافق عصر الإمام الرضا (عليه السلام) حركة فكرية بلغت الغاية في نشاطها وانتشارها، فقد اتسعت رقعة الاسلام وكثرت الفتوحات، واتصل المسلمون بالامم الاخرى من فرس وروم وغيرهم، وكان المأمون أول من ترجم علوم الحكمة وقرب أهلها، فظهرت ـ على اثر ذلك ـ مقالات غريبة وتيارات أجنبية عن الاسلام، وكان الملحدون يلقون الشبهات، والمرجئة يساندون حكام الجور، والمغالون يدعون مع اللّه آلهة أخرى والخوارج يكفرون المسلمين، وكثير من الرواة يضعون الأحاديث بطلب من الحكام لاغراض سياسية أو مذهبية. وكانت صور الصراع الفكري تتمثل في الخطابات المتبادلة ومجالس المناظرة وعن طريق الاستعانة بالشعراء في الدفاع عن آراء كل فريق وهجاء الفريق الآخر، فقد كان لكل فريق شعراءه، وعموما كان الشعر من أمضى الاسلحة[1].

وفي هذا العصر انتشر التشيع في كل قطر، وبرزت معالمه، وتركزت أسسه وانتشر فقه الشيعة وناظر متكلموهم خصومهم في مسائل التوحيد والعدل وعصمة الأنبياء وما إلى ذلك من مسائل عقيدية، كل ذلك بفضل الجهد العلمي الكبير الذي اضطلع به الإمام الصادق (عليه السلام)، وكان من نتائج هذا الجهد المبارك أن عرف المذهب على حقيقته، اصولاً وفروعا، ومن هنا اطلق على الشيعة لفظ الجعفريين وعلى فقههم الفقه الجعفري تيمنا باسم الإمام الصادق (عليه السلام).

فقد انطلق الإمام الصادق (عليه السلام) إلى تأسيس مدرسة علمية عظيمة في مطلع القرن الهجري الثاني، تخرجت منها كوادر علمية كثيرة في مجالات عديدة من المعرفة. وعمد الإمام الكاظم (عليه السلام) على تعميق أسس مدرسة أبيه الصادق (عليه السلام) وقام بتوضيح معالمها أكثر فأكثر، ولكن الظروف الاستثنائية التي عاشها وقضاءه شطرا كبيرا من عمره في السجون لم تمكنه من تحقيق سائر اهدافه الشريفة في احياء السنة النبوية الشريفة على ضوء مدرسة أبيه (عليه السلام)، فبلغ به الأمر أن يبعث إلى هشام بن الحكم بأن يكف عن الكلام نظرا لخطورة الموقف، فكف هشام عن ذلك حتى مات المهدي العباسي[2]. مع ذلك استغل الإمام الكاظم (عليه السلام) فترات الهدوء النسبي لنشر الاحكام والتعاليم الاسلامية الصافية، وكان العلماء والرواة لا يفارقونه ولا يفترون عنه، يسجلون أحاديثه وأبحاثه.

روى السيد ابن طاووس: أنه كان جماعة من خاصة أبي الحسن موسى (عليه السلام) من أهل بيته وشيعته يحضرون مجلسه، ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس وأميال، فإذا نطق بكلمة وأفتى في نازلة أثبت القوم ما سمعوا منه في ذلك[3].

تجدر الاشارة إلى أن علم الخلاف كان قد وجد منذ نهاية القرن الأول الهجري، وطوال القرن الثاني بين مدرستي أهل الرأي وأهل الحديث، وثار الجدل بينهم، وانبرى كل فريق يدافع عن رأيه ويشكك بالمدرسة الاخرى، وينال من علمائها والقائمين عليها. وكان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في هذا العصر ينتقدون مدرسة الرأي والقياس بشدة، ويؤكدون على أن القياس من فعل إبليس. وكان الإمام الرضا (عليه السلام) ينشر آراء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) العقائدية منها والفقهية، وكان في فترة ولاية العهد يعقد المؤتمرات والندوات في تعبيرنا المعاصر، يروى أن المأمون جمع علماء الملل والنحل مثل الجاثليق ورأس الجالوت ورؤساء الصابئة والنصارى والمتكلم سليمان المروزي، فكان الإمام الرضا (عليه السلام) يدحض حججهم ويصحح مفاهيمهم الخاطئة، وينشر الوعي الإيماني حتى أسلم على يديه بعض الملاحدة والنصارى[4]. وكانت شهرته قد طبقت الآفاق، وغدا شخصه العظيم حديث الساعة حينئذ، ومحط اهتمام العلماء لغزارة علمه ومتانة استدلاله، وقد حفظ لنا التاريخ روائع رضوية كثيرة في هذا المجال. هذا وفي الوقت الذي كان فيه المأمون العباسي يقوم بترجمة ونشر الفلسفة اليونانية، كان الإمام الرضا (عليه السلام) يقوم بنشر الثقافة القرآنية الخالصة، فقد كان جوابه كله وتمثله انتزاعات من القرآن المجيد[5] .

وعموماً كان عصره (سلام اللّه عليه) عصر الجدل والنظر والبحث، وبتعبير معاصر عصر «التعددية الثقافية» فقد حاور الإمام (عليه السلام) ـ كما سيأتي في الفصل الخامس ـ أهل الملل والنحل والأهواء وعلماء المذاهب الاسلامية. وعلى العكس من الجو السياسي السيء والمضطرب، الذي عاصره الإمام (عليه السلام) كان الجو الثقافي يمتاز بالتفتح النسبي، ملائماً للحوار وعرض الافكار، وكان المأمون يشجع هكذا حوار لاشغال الناس في مشاكل جانبية بعيدا عن مشاكل الحكم والسياسة، بدليل أن المأمون الذي كان في زمن ضعفه وصراعه مع أخيه الأمين يشجع على الحوار والنظر وكان ينصر التشيع في الظاهر، تغير موقفه هذا بعد وفاة الإمام الرضا (عليه السلام) بعد أن وطد أركان حكمه فقمع الرأي الآخر وتبنّى فكر المعتزلة وأظهر فتنة خلق القرآن عام (212 هـ)، وفرضها بالقوة وأقام محاكم تفتيش من نوع آخر، يمتحن القضاة والمحدثين بالقول بخلق القرآن، وفتك بوحشية وقسوة بكل من عارض هذه المسألة أو أبدى حياده حولها، فأظهر البعض منهم موافقته وهم كارهون.

المصدر: الإمام الرضا (ع) سيرة وتاريخ


[1] انظر : جهاد الشيعة : 212.
[2] انظر : رجال الكشي : 22(عليه السلام) ، رقم الترجمة (131).
[3] مهج الدعوات / ابن طاووس : 219.
[4] انظر : أعيان الشيعة 2 : 14.
[5] انظر : الأنوار البهية : 1(عليه السلام)9.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل