Search
Close this search box.

وللكافر حقوقٌ في الإسلام

وللكافر حقوقٌ في الإسلام

الشيخ د. أكرم بركات

جيء بابنة كريم العرب حاتم الطائيّ، الذي مات مشركاً، مع قومها أسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت له: يا محمّد، إنْ رأيت أن تخلّي عنّا، ولا تُشمت بنا أحياء العرب؛ فإنّي ابنةُ سيّد قومي، وإنّ أبي كان يحمي الذِّمار(1)، ويفكّ العاني(2)، ويُشبع الجائع، ويكسو العاري، ويُقري الضيف، ويُطعم الطعام، ويُفشي السلام، ولم يردّ طالب حاجة قطّ. أنا ابنة حاتم الطائيّ، فقال لها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «يا جارية، هذه صفة المؤمن حقّاً […] خلّوا عنها؛ فإنّ أباها كان يُحبّ مكارم الأخلاق»(3).

لله تعالى نظرة رحمانيّة إلى كلّ من يقوم بعمل إنسانيّ، بغضّ النظر عن معتقده، انعكست على تعامل رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم مع الآخر في أدائه الإنسانيّ، كما تعامل مع ابنة كريم العرب.

* الإنسانيّة أساس كلّ تعامل
لم يقتصر الأمر على التعامل الإيجابيّ انطلاقاً من العمل الإنسانيّ أو الصفة الإنسانيّة، بل ورد في النصوص الإسلاميّة ما يُفيد احترام الإنسان كإنسان بغضّ النظر عن عقيدته أو صفته أو عمله، وهذا ما ينسجم مع ما تقدَّم باعتبار الإنسان محوراً في الكون، وأنّ كماله غاية الخلق والإيجاد. فمشروع الله عزّ وجلّ هو المشروع الإنسانيّ، لذا، فإنَّه تعالى حينما تحدَّث عن الكعبة التي هي بيته العتيق الذي لم يسكنه ولم يملكه أحد، قال: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران: 96)، ولم يقل: وُضع لله، وذلك لأنّ وضْعَه للنّاس هو ذاته وضعُهُ لله. من هنا، كان السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره يقول: إنْ أبدلنا قولنا: «في سبيل الله» بقولنا: «في سبيل النّاس» لما تغيَّر المعنى. لذا، ورد عن رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «الخلقُ كلُّهم عيال الله، فأحبُّهم إلى الله عزَّ وجلَّ أنفعهم لعياله»(4). ويؤيّد الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام الطرح النبويّ في نهج البلاغة بتصنيفه الناس قائلاً: «فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ»(5).

وانطلاقاً من هذه الرؤية، كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حروبه (الدفاعيّة) يُحذِّر المجاهدين بقوله: «لَا تَغُلُّوا، ولَا تُمَثِّلُوا، ولَا تَغْدِرُوا، ولَا تَقْتُلُوا شَيْخاً فَانِياً، ولَا صَبِيّاً، ولَا امْرَأَةً»(6).

* الإسلام وحقوق الآخر
لإجلاء الصورة أكثر في هذه الرؤية الإسلاميّة التي تدعو إلى احترام الإنسان كإنسان، نعرض بعض الأحاديث الواردة في بيان معاملة الكافر:

1. مساواة الكافر مع المسلم في الشهادة عليه: ورد عن النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم: «من شهد شهادة زور على مسلم أو كافر، علّق بلسانه يوم القيامة، ثمّ يصير مع المنافقين في الدرك الأسفل من النار»(7).

2. وجوب برّ الكافر أباً وأمّاً: ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «ثلاث ليس لأحد من الناس فيه رخصة: برّ الوالدين مسلماً كان أو كافراً …»(8).

3. احترام حقّ الكافر جاراً: ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «الجيران ثلاثة، فمنهم من له ثلاثة حقوق: حقّ الإسلام، وحقّ الجوار، وحقّ القرابة، ومنهم من له حقّان: حقّ الإسلام، وحقّ الجوار، ومنهم من له حقّ واحد، الكافر له حقّ الجوار»(9).

4. الوفاء بعهد الكافر: في الحديث السابق عنه صلى الله عليه وآله وسلم: «… والوفاء بالعهد لمسلم كان أو كافراً»(10).

5. وجوب أداء الأمانة له: في الحديث السابق عنه صلى الله عليه وآله وسلم: «… وأداء الأمانة لمسلم كان أو كافراً»(11).

6. حماية الكافر المستجير: ورد في سيرة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ صاحبه عتبة بن أَسيد بعدما هاجر إلى المدينة مسلماً، أخذه منها رجلان مشركان وأرادا إرجاعه إلى دار الكفر، وفي الطريق قتل عتبةُ أحدَهما، وفرَّ الآخر، ويدعى كوثر، نحو المدينة، فلحقه عتبة، فإذا بالمشرك كوثر يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو جالس بين أصحابه، ويستغيث به قائلاً: «قتل والله صاحبكم صاحبي، وأفلتّ منه، ولم أكَدْ، وإنّي لمقتول»، فإذا بالنبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم يعطيه الأمان والحماية(12).

7. دعاء الكافر المظلوم مستجاب: ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «إيّاكم ودعوة المظلوم، وإن كان من كافر؛ فإنّها ليس لها حجاب دون الله عزّ وجلّ»(13). وورد أنَّ أبا ذرّ سأل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «يا رسول الله، فما كانت صحف إبراهيم عليه السلام؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: كانت أمثالاً كلّها، وكان فيها «أيها الملك المبتلى المغرور، إنّي لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض، ولكن بعثتك لتردّ عليّ دعوة المظلوم، فإنّي لا أردّها، وإنْ كانت من كافر»(14).

8. دفن الكافر: ورد عن بعلة بن مرّة قال: «سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان لا يمرّ بجيفة إنسان فيجاوزها حتّى يأمر بدفنها، لا يسأل: أمسلم هو أم كافر؟»(15).

* العمل الصالح والكافر
يُفهم من النصوص الدينيّة أنّ للعمل الإنسانيّ الكماليّ نوعاً من التجلّي للكمالات الإلهيّة، لذا، كان محلّ نظرة رحمة من الله تعالى في النصوص الإسلاميّة، والتي يتحدّث بعضها صراحة عن أنّ عمل الكافر يمكن أن يحسّن مصيره أو يخفّف عذابه، نذكر منها:

1. عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «من أحسن من محسنٍ مؤمنٍ أو كافرٍ، فقد وقع أجره على الله في عاجل دنياه أو آجل آخرته»(16).

2. ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: «إنَّ مؤمناً كان في مملكة جبَّار فولع به، فهرب منه إلى دار الشرك، فنزل برجل من أهل الشرك، فأظلّه وأرفقه وأضافه، فلمّا حضره الموت أوحى الله عزَّ وجلَّ إليه: وعزّتي وجلالي، لو كان لك في جنّتي مسكن لأسكنتُك فيها، ولكنّها محرَّمة على من مات بي مشركاً، ولكن يا نار، هيديه ولا تؤذيه، ويؤتى برزقه طرفي النهار»(17).

3. عن الإمام الكاظم عليه السلام: «كان في بني إسرائيل رجل مؤمن وكان له جار كافر، وكان يرفق بالمؤمن، ويوليه المعروف في الدنيا، فلمّا أن مات الكافر بنى الله له بيتاً في النار من طين، فكان يقيه حرّها، ويأتيه الرزق من غيرها، وقيل له: هذا بما كنت تدخل على جارك المؤمن فلان ابن فلان من الرّفق، وتوليه من المعروف في الدنيا»(18).

وقد رفض أهل البيت عليهم السلام، انطلاقاً من وعيهم للقرآن الكريم والسُّنَّة النبويّة الشريفة، المنطق المضيِّق لرحمة الله تعالى، كما يظهر جليَّاً في الرواية التي أوردها صاحب الكافي عن زرارة قال: دخلت أنا وحمران (أو بكير) على أبي جعفر عليه السلام قلت له: إنّما نمدُّ المطمار، قال عليه السلام: وما المطمار؟ قلت: التُّر(19)، فمن وافقنا من علويٍّ أو غيره تولّينا، ومن خالفنا من علويٍّ أو غيره برئنا منه، فقال لي: يا زرارة، قول الله أصدق من قولك، فأين الذين قال الله عزَّ وجلَّ عنهم: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾؟! أين المرجون لأمر الله؟! أين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً؟ أين أصحاب الأعراف؟ أين المؤلَّفة قلوبهم؟(20).

* الآخر بين القبول والتكفير
قد يتعجّب بعضنا من مسار هذا البحث وما نتج عنه، لا سيّما أنّه قد يجده متناقضاً مع الثابت الدينيّ لدى المسلمين مِن تكفير غير المسلم، فكيف نوائم بين النظرة الإيجابيّة المتقدّمة إلى الآخر، وبين الحكم باعتباره كافراً؟

إنّ الإجابة عن هذه الإشكاليّة تنطلق من بيان معنى الكفر الذي هو عدم الإيمان(21)، فكلّ من لا يؤمن بشيء هو كافرٌ به، فالكفر بحدِّ ذاته ليس مصطلحاً سلبيّاً، لذا، وصف الله تعالى المؤمنين بالكافرين بسبب عدم إيمانهم بالباطل، قال الله تعالى: ﴿قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ﴾ (غافر: 84)، وقال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ﴾ (الممتحنة: 4).

انطلاقاً من هذا، فإنّ الدين الإسلاميّ وضع إطار الهويّة الدينيّة للمنتسبين إليه، وهو يتحقّق بشهادتَي أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله(22)، أو الولادة من أبٍ مسلمٍ أو أمٍّ مسلمة. ومن هو ليس كذلك سمّاه كافراً، وهذا يشابه مصطلح الأجنبيّ بالنسبة إلى اللبنانيّ، مثلاً، الذي تتحقّق هويّته الوطنيّة من ولادته من أب لبنانيّ، أو إقامته أكثر من عشر سنوات في لبنان بشروط محدودة، ومن هو ليس كذلك يسمّى أجنبيّاً.

إذاً، الإشكاليّة ليست في التكفير، أي اعتبار الآخر كافراً، إنّما في الآثار المترتِّبة على الكفر، والتي ذكرنا في هذا البحث ما يجيب عن العديد من الأسئلة المتعلِّقة بها، إلّا أنّه تبقى بعض الأحكام الشرعيّة المترتِّبة على الكفر ليس هنا محلّ طرحها.

1- ما ينبغي حياطته والذّود عنه، كالأهل والعرض.
2- أي الأسير.
3- أعيان الشيعة، السيّد الأمين، ج 1، ص 287.
4- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 16، ص 345.
5- نهج البلاغة، ج 3، ص 84.
6- الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 27.
7- بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث، الهيثمي، ص 74.
8- فيض القدير، المناوي، ج 3، ص 403-404.
9- جامع أحاديث الشيعة، السيّد البروجرديّ، ج 16، ص 89.
10- فيض القدير، مصدر سابق، ج 3، ص 403-404.
11- المصدر نفسه.
12- تاريخ الطبريّ، الشيخ الطبريّ، ج 2، ص 284.
13- كنز العمّال، المتقي الهندي، ج 3، ص 502.
14- الخصال، الشيخ الصدوق، ص 525.
15- سنن الدارقطني، الدارقطني، ج 4، ص 64.
16- المصنّف، الصنعانيّ، ج 3، ص 173.
17- الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 189.
18- ثواب الأعمال، الشيخ الصدوق، ص 169.
19- التُّر هو خيط البناء.
20- الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 383.
21- انظر: لسان العرب، ابن منظور، ج 5، ص 144-148.
22- انظر: التكفير، الشيخ بركات، ص 46-82.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل