Search
Close this search box.

لَيْسَ لِلْأَجْسامِ نَجاةٌ مِنَ الْأَسْقام

لَيْسَ لِلْأَجْسامِ نَجاةٌ مِنَ الْأَسْقام

ينبغي على الإنسان أن يحمد الله تعالى على نعمة العافية والصِّحَة، وأن يسأله دوامهما، فإن العافية واحدة من النعم التي يجهل الإنسان قَدْرَها ما دام فيها، فإذا فقدها عرَف قدرها.

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “لَيْسَ لِلْأَجْسامِ نَجاةٌ مِنَ الْأَسْقام”.

لا نجاة للأجسام من العِلَل والأمراض والأسقام، فما دامت الحياة تدب في الجسم فمن المؤكد أن يصابَ بذلك، فالجسم مادي أولاً ومن طبيعة المادة التأثُّر بما يعرض عليها من عوارض، ومن طبيعتها تبعاً لذلك التغيُّر من حال إلى حال، ولهذا لن يسلم جسم من الأمراض، تأتيه بين الفينة والأخرى، ولن يسلم من أسقام تتنوَّع ألامها شدة وضعفاً، وكلما تقدم الإنسان في العمر أصبح عرضة لمزيد منها.

إن ذلك يقتضي من الإنسان أن يحمد الله تعالى على نعمة العافية والصِّحَة، وأن يسأله دوامهما، فإن العافية واحدة من النعم التي يجهل الإنسان قَدْرَها ما دام فيها، فإذا فقدها عرَف قدرها، وبذل كل مالِه لتبقى له، ولذلك كان شكرها واجباً، والسؤال من الله أن يديمها عليه، فإن الإنسان يتوقع أن تهجم الأسقام عليه في كل يوم، بل قد تباغته في كل لحظة.

لذلك يحسُن أن يستعد للأسقام والأمراض باعتماد مبدأ الوقاية ما أمكن، فإن هذا المبدأ يجنِّبه الكثير منها، وهذا ما تعتمده الشريعة الإسلامية في تشريعها القوانين التي ترعى جسم الإنسان، فقل أحكامها قائمة على جلب المصلحة له ودفع المفسدة عنه، كل ما هو ضروري له توجبه على المسلم، وكل ما يتأتّى منه الضرر عليه تُحَرِّمه عليه، ولا يخرج حكم من أحكامها بخصوص الجسم خارج هذه القاعدة التشريعية الحاكمة على بقية القواعد التشريعية في هذا المجال.

المُلفت في جوهرة الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: “لَيْسَ لِلْأَجْسامِ نَجاةٌ مِنَ الْأَسْقام” ولم يقل: ليس للأجساد، ولم يقل ليس للأبدان نجاة من الأسقام، ومعلوم أن الإمام أمير البلاغة وسيدها فهو ينتقي كلماته بدقة للتعبير عن مراده، ولا يلقي الكلام كيفما اتفق وحاشاه ذلك، بحيث أننا لو استبدلنا كلمة مكان كلمة لاختَلّ المعنى، وهذا ما نحن فيه بالضبط، فلو قال: ليس للأجساد، أو ليس للأبدان لم يستقم المعنى، وذلك أن هناك فرقاً بين الجسم والجسد والبدن.

فأما الجسم فيعبَّر به عما يتميَّز بالروح والحياة والجمال. وبهذا جاء في الاستعمال القرآني، قال تعالى واصفاً طالوت الذي اختاره الله مَلِكاً لبني إسرائيل بعد النبي موسى (ع): “…إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ…”﴿247/ البقرة﴾.

فطالوت حَيٌّ يتحرَّك ويعمل ويقود القوم. وقال تعالى واصفاً المنافقين: “وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴿4/ المنافقون﴾. فالمنافقون أحياء يتحركون بين الناس، يُبطنون الكفر ويُظهِرون الإيمان، ويقولون كلاماً ظاهره طيِّب مُفيد لكنهم يفعلون نقيضه.

وأما الجسَدُ فهو الذي يخلو من الروح، فليس فيه حياة إنما هو جُثَّة فقط، وبهذا جاء في الاستعمال القرآني، قال تعالى: “وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ﴿148/ الأعراف﴾. فالعِجْلُ كان تمثالاً ليس فيه حياة.

وقال تعالى: “فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ ﴿88/ طه﴾. وردَّ الله تعالى على منطق المشركين الذين كانوا يبرِّرون إنكارهم نبوة النبي محمد (ص) بأنه بشر مثلهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، فأجابهم الله بأن الأنبياء بشر ولهم أجسام حيَّة لها حاجات من طعام وماء، وتتعب وتنام وتمرض فقال سبحانه: “وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ﴿8/ الأنبياء﴾. وذكر الله تعالى ما امتحن به سليمان (ع) فقال: “وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ﴿34/ ص﴾. فقد ألقى الله على كُرسِيِّه التي يجلس عليها جسداً لا حياة فيه، وقيل صبي مَيْتٌ.

وأما البَدَنُ فهو الجسد ولكن يعبَّر به عمّا يتميَّز بضخامة الجُثَّة، ولهذا قال تعالى عن فرعون إشارة إلى ضخامة جُثَّته وكان قد مات غرَقاً: “فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴿92/ يونس﴾.

وقد اتضح مما سَلَف أن الجسم هو الذي تعرض عليه الأمراض والأسقام والآلام، ولا تعرض على الجسد لأنه لا حياة فيه.

بقلم الباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل