Search
Close this search box.

مشتركون في الإنسانيّة

مشتركون في الإنسانيّة

الشيخ محمّد حسن زراقط

تبدأ قصة الخلق الإلهي للإنسان بحسب القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30). إحدى دلالات هذه الآية هي الاعتقاد بأنّ الله تعالى اختار الإنسان ليكلِّفه بخلافته في الأرض. واقتضى الاستخلاف تحميله أيضاً مسؤوليّات تتلازم مع هذه المهمّة العظيمة. ولمّا كان الاستخلاف أمراً يجمع بين الإلزام من جهة والاختيار والأهليّة من جهة أخرى، برزت خلال أداء الإنسان مسؤوليّته قضيّة الاختلاف الذي يحصل لأسباب عديدة؛ شخصيّة وعرقيّة ودينيّة، بشكلٍ دفعه إلى سوء إدارة الاختلاف وإساءة استغلاله وتحويله إلى بابٍ من أبواب الظلم والعدوان.

قبل الحديث عن سنّة الاختلاف وإدارته، علينا الحديث عن سرّ الإنسان ليكون جديراً بالخلافة، وكيف كانت الإنسانيّة ضماناً للالتقاء مهما بدا الآخر مختلفاً.

* الآخر: إمّا أخٌ أو نظير
يؤسّس حديث الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام نظرة خاصّة، لمالك الأشتر حين ولّاه مصرَ: «ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً… فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، وإمّا نظير لك في الخَلْق»(1)، فيؤسس عليه السلام قاعدةً عامّة للتعامل مع الإنسان الآخر، تتكوّن من وضع صلتين؛ أولاهما صلة الدين، الذي يفرض حقوقاً وواجبات على المسلم تجاه الآخر، بوصفه أخاً في الدين. من ناحية أخرى، يؤدي الاختلاف في الدين دوراً في اختلاف البشر، ولعلّه كان ولا يزال من أهمّ أسباب إساءة استغلال الاختلاف البشريّ الذي وصل إلى حدّ إراقة الدماء، سواء كان ذلك في داخل الدين الواحد أو بين الأديان المختلفة وأتباعها، وسواء كانت الدوافع الدينيّة صادقة أم كاذبة، إذ لم يكن الاختلاف الدينيّ سوى ذريعة للعدوان والظلم.

وهنا تأتي الصلة الثانية التي أسّسها أمير المؤمنين عليه السلام؛ التناظر في الخلق، فيكفي أن يكون إنساناً مثلك؛ فلا تظلمه ولا تعتدي عليه، ولا تسلبه حقوقه، مهما بدا الاختلاف كبيراً.

* الإنسانيّة واستشعار العدالة
هنا يُطرح سؤال: ما هو معيار التعامل مع النظير المختلف؟

لما كان هدف خلق الإنسان هو استخلافه، وتحميله جملةً من المسؤوليّات، فإن ذلك يستدعي أن يقوم بالقسط ويحقّق العدالة. ولو جرّدنا الإنسان من معارفه وتربيته، لوجدناه مستحسناً للعدل ومستقبحاً للظلم بطبيعته الإنسانيّة التي تميّزه عن باقي المخلوقات؛ بما يملك من قوّة عقليّة مميّزة، ومن هذه القوّة بالتحديد تنشأ باقي فضائله. وهذا مشترك بين أفراد الإنسان؛ فيكون هذا العدل معياراً لصون الحقوق العامّة مهما تعدّدت أسباب الاختلاف البشريّ.

إنّه موقف الإسلام الواضح في التعامل مع الآخر المختلف، وهو ما سنبيّنه من خلال الآليّات التي أقرّها الله تعالى لحُسن إدارة العلاقات بين بني الإنسان على الرغم من الاختلاف والتنوّع الموجود بينهم.

* الضوابط الإسلاميّة لإدارة الاختلاف
ثمّة عدد كبير من الآليّات التشريعيّة العمليّة والعقديّة التي سنّها الله لحماية الإنسانيّة من إساءة استغلال التنوّع الموجود بين البشر حتّى لا يبغي أحد على الآخر، نذكر منها:

1. شموليّة الكرامة الإنسانيّة: من يتتبّع آيات كتاب الله، ينتهي إلى أنّ الإنسان يحظى بمستوى من التكريم يتساوى فيه الناس جميعاً، بحيث لا يفقد حظّه من التكريم إلّا بإرادته واختياره. ومن الآيات التي تفيد شمول الكرامة الإلهيّة لجميع الناس، قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء: 70). ويُضاف إلى هذه الآية آيات يعدّ الله الإنسانَ فيها مستحقّاً للخطاب وأهلاً للتفهيم، سواء كان ذلك بصيغة «يا بني آدم»، أم بصيغة «يا أيّها الناس».

2. الاختلاف سنّة وقانون: اقتضت إرادة الله تعالى أن يتنوّع خلقه. ولم يكتفِ سبحانه بذلك، بل أفهمنا أنّ التنوّع هو الحالة الطبيعيّة التي يجب على الإنسان أن يوطّن نفسه على قبولها والتآلف معها، وهو ما أشار إليه في قوله تعالى: ﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ (الإسراء: 21)، ويقول سبحانه أيضاً: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ (الإسراء: 20)، ويؤكّد ذلك بقوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ (هود: 118). ولا يلغي هذا التنوّع التمييز بين الحقّ والباطل، أو حسن الدعوة إليه.

3. الاستخلاف والشراكة: يترتّب على سنّة الاستخلاف التي أشرنا إليها آنفاً آثار نفسيّة وروحيّة تدعو الإنسان من طرف خفيٍّ إلى تجنّب استغلال الاختلاف مهما كانت أسبابه، وعدم تحويله إلى مبرّر للعدوان على الآخر. وهذا ما يعبّر عنه بعض علماء المسلمين بقولهم: «العلاقة الاجتماعيّة ضمن صيغة الاستخلاف تكون ذات أطراف، وأيّ علاقة تنشأ بين الإنسان وأخيه الإنسان -مهما كان المركز الاجتماعيّ لهذا أو لذاك- فهي علاقة استخلاف وتفاعل بقدر ما يكون هذا الإنسان أو ذاك مؤدّياً لواجب هذه الخلافة، وليست علاقة سيادة أو ألوهيّة أو مالكيّة»(2).

4. تحميل الإنسان مسؤوليّة نفسه: من الأسباب التي تدعو إلى إساءة بعض الناس إلى بعضهم بعضاً، اعتقاد الإنسان أنّه مسؤول عن ضلال غيره وأنّه يتحمّل مسؤوليّة ذلك الضلال. وقد يؤدّي هذا إلى شعور الإنسان بأنّ ضلال غيره ينعكس عليه وكأنّ البشر ركّاب سفينة واحدة، ستغرق إذا ضيّع أحد الأفراد بوصلة الهداية، فيكون بذلك قد أغرق سائر الرفاق.

وفي مقابل هذه النظرة، يؤكّد الله تعالى أنّ كلّ إنسان يتحمّل مسؤوليّة اختياراته الخاطئة: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء﴾ (البقرة: 272)، وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ (المائدة: 105).

5. تعميم تحريم الظلم والعدوان: بالرجوع إلى القرآن الكريم، نجد أنّ ضوابط العدل والظلم والحقّ والباطل تجري على جميع الناس حتّى لو كانوا ممّن لا يرتضي الله دينهم. ومن هنا، نلاحظ إدانة القرآن لليهود؛ لأنّ بعضهم كان يميّز بين الناس في أداء الأمانة إليهم فيؤدّونها إلى أهل دينهم وينكرونها على غيرهم، كما ورد في قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ (آل عمران: 75). وفي هذا السياق، يأتي أيضاً قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: 8).

6. تجنّب التعميم السلبيّ أو الإيجابيّ: كثيراً ما يجنح الإنسان في تقويمه للآخرين إلى تعميم أحكامه على طوائف من الناس، وخاصّة عندما يختلفون معه في الدين أو النسب أو غير ذلك من وجوه الاختلاف. بينما يعلّمنا الله تعالى في القرآن الكريم تجنّب التعميم الخاطئ، وتوسعة حكم الفرد أو الأفراد إلى سائر المشابهين أو المشتركين معهم في سِمة من السمات. لذلك، نلاحظ أنّ أحد أساليب القرآن في أحكامه على أهل الكتاب هي أحكام تبعيضيّة، فلا تطلق أحكام بعض على الكلّ. ومن العبارات المتكرّرة في القرآن الكريم: «من أهل الكتاب»، سواء كان ذلك في مقام المدح أو الذمّ تجنّباً للتعميم وعملاً بمبدأ تعميم العدل والإنصاف.

* الإنسان مكرّم
الإشارات المتقدّمة هي إشارات هادية تكشف أنّ الإنسان بحدّ ذاته كائن مكرّمٌ، وهو حتّى بالنسبة إلى الأنبياء عليهم السلام موضوع هداية: ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الأعلى: 22)، وبرحمة ولين: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ﴾ (آل عمران: 159)، وبعيداً عن الإكراه في الدين: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: 256)، فضلاً عن غير الأنبياء من الناس الذين دانوا من استخفّ الآخرين وظلمهم، كما دانوا من خضع للظلم(3)، ودعوا إلى القتال لرفع نير الاستضعاف عن عباد الله(4).

بناءً على ما تقدّم، يتبيّن لنا أنّ الرؤية الإسلاميّة تنظر إلى الإنسان بالنسبة إلى الإنسان الآخر على أنّه قدوة ونموذج للتكامل، أو شريك له ورفيق درب، أو موضوع للجذب إلى صراط التكامل لتحقيق الخلافة الإلهيّة على الأرض.

1- نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج 3، ص 84.
2- المدرسة القرآنيّة، الشهيد الصدر، ص 108.
3- راجع: سورة الزخرف: الآية 54؛ وانظر أيضاً: سورة النساء: الآية 97.
4- راجع: سورة النساء: الآية 75.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل