أورد الله تعالى في القرآن الكريم عدّة آيات دعا فيها نبيَّه محمّدًا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الاستغفار من ذنبه، قال تعالى:
﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾1.
﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾2.
﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾3.
فكيف نفسِّر هذه الآيات، مع قطعنا بعصمة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بالدليل العقليّ المتقدِّم، والذي لا بدّ أن يُفسَّر النصّ في ضوئه، لكون العقل القطعيّ هو الذي أوصلنا من خلال حكمة الله تعالى إلى النصّ القرآنيّ، وبالتالي لا يمكن أن يعارض هذا النصّ، فإذا كان ظاهره معارضًا له فلا بدَّ أن نؤوّله بما يوائم ذلك الدليل العقليّ القطعيّ، وحال هذه الآيات هو حال تلك الآيات التي عرضنا في الكتاب السابق “يسألونك عن الله”، والتي تفيد بأنّ لله تعالى يَدَيْن، بقوله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾4، وبأنّ له وجهًا، بقوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾5، وبأنّ له عينًا، بقوله تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾6، وبأنّ له ساقًا، بقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾7، فقد عرضنا في ذلك الكتاب تأويلاً لهذه الآيات بما يتواءم مع الدليل العقليّ المفيد بأنّ الله تعالى غنيّ، وبالتالي فهو غير مركّب، لأنّ المركّب محتاج إلى أجزائه، وبالتالي فهو ليس له جسم، لأنّ الجسم مركّب، وعليه فلا بدّ من تأويل تلك الآيات بما ينسجم مع الدليل العقليّ، بأن نقول: يُراد من اليدين يد الثواب ويد العقاب، أو يد القوّة ويد النعمة، ويُراد من الوجه الذات، ومن العين الرعاية، ومن الساق الشدّة، كما تقدّم ذلك في كتابنا الآنف الذكر، وعليه، فكيف نفسِّر آيات ذنب النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم؟
جواب عام نلاحظ أنّ العديد من الآيات القرآنيّة جرى فيها الخطاب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، لكنّها في الواقع ليست موجَّهة إليه صلى الله عليه وآله وسلم، بل كانت من باب المَثَل القائل: “إيّاك أعني، واسمعي يا جارة”، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا﴾8، مع أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نشأ يتيمًا بلا والدين.
بناءً عليه، يمكن حمل الآيات الداعية إلى الاستغفار ونحوه بأنّها موجَّهة، من الظاهر، إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، إلاّ أنّها في الحقيقة موجَّهة إلى سائر المسلمين.
جواب خاص
إنَّ معنى الذنب في اللغة “الجُرم”9، وهو من المفاهيم النسبية التي يَختلف انطباقها بحسب حال الإنسان وموقعه وبيئته، حاله في ذلك حال معنى العيب، فإنه أيضًا من المفاهيم النسبية، إذ نلاحظ أنّ بعض تصرفات الإنسان البدويّ في بيئته ليست عيبً، بينما التصرّف نفسه يُحكم عليه بالعيب في البيئة الحضرية، وكذلك نُلاحظ أنّ أكْلَ شابٍّ عاديٍّ في شارع عام ربّما لا يُعتبر عيب، ولكن لو أنّ عالم دين ذا مكانة فعل ذلك فقد يُلام، ويُعتبر ذلك منه عيب، بل قد يراه البعض مُسقطاً للمروءة.
واللافت في نظرة الناس إلى نسبيَّة الذنب أنهم قد يعتبرون الفعل نفسه حسنًا من ناحية، وذنبًا من ناحية أُخرى، وقد يكون منشأ هذا الأمر مقام الإنسان وشأنيَّته، فلو أنّ شاباً متدينًا ليس له تميّز في موقعه وشأنه الاجتماعيّ، طلب من أحد الأشخاص البعيدين عن أجواء التدين والأخلاق مساعدةً لأجل نشاط إسلاميّ، فقام ذلك الشخص ووبَّخه، وطرده، رافضًا إعطاءه أيَّ مساعدة، فما هو موقفنا من عمل هذا الشاب؟
من الطبيعي أن نثني على عمله، ونعتبره حسنً، وإن لم تحصل النتيجة المطلوبة.
ولكن لو أنَّ مرجعًا دينيًا، أو قائدًا كبيرًا، قام بهذا الطلب، وطرده ذلك الرجل، فهنا قد نُعاتب المرجع أو القائد: بأنّ هذا العمل غير لائق ومناسب لمقامه وشأنه، فلا نعدُّ ما صدر عنه حسناً باعتبار شأنيَّته وموقعه، فهذا الفعل هو حسن باعتبار، وهو ليس كذلك باعتبار آخر.
ولتقريب الفكرة أكثر، أُعطي مثالاً يتعلق بالحكم على الشيء تارة بلغة العقل وأُخرى بلغة القلب.
فقد ورد في الأدب العالمي قصص حبٍّ وعشقٍ خرجت عن مألوف الناس، كعشق روميو لجوليت في الأدب الإنكليزي، وشيرهاد لشيرين في الأدب الفارسي، وقيس لليلى في الأدب العربي الذي ورد فيه أنَّ قيسًا كان يتبدّل حاله بين العقل والجنون بسبب لقائه ليلى.
وبغضّ النظر عن واقعية تلك القصة، واعتمادًا على المعروف منه، فلو أنَّ قيسًا كان يجلس مع ليلى، فهو يعتبر أنّ جلوسه معها يُمثِّل قمة السعادة، وغاية الكمال المنشود، فلو أنه أثناء جلوسه مع معشوقته اضطرَّ إلى تركها نصف ساعة ليُعطي الدواء لأُمِّه المريضة، ثم عاد إليه، فما هو الحكم المناسب لذهابه إلى والدته لأجل مداواتها؟
فمن الواضح أنّ هذا العمل، بلغة العقل والمجتمع، هو حسن، بل من أوجب الواجبات، وأفضل ما يقوم به الإنسان في حياته من أعمال.
ولكن إذا أردنا الحديث عن موقف قيس حينما يرجع إلى ليلى -وهي عارفة بما قام به- وقد تركها نصف ساعة، فهل يعود بشكل طبيعي بدون اعتذار؟ أو أنه يعتذر إليها لغيابه عنها نصف ساعة، على رغم ضرورة ما قام به؟ الجواب بلغة القلب: أنه يعتذر إليه، على قاعدة أنّ للعقل لغة، وللقلب لُغة أُخرى، ففعله بلغة العقل حسنٌ، وبلغة القلب بحاجة إلى اعتذار.
وهكذا هو حال الأنبياء عليه السلام، في كثير من حالاتهم التي يعتبرون فيها أنّ خلوتهم مع الله تعالى، وقيامهم بين يديه – عزَّ وجل – تُمثِّل لهم قمة الكمال الإمكانيّ، والعبوديّة الإنسانيّة، لذا فهم حينما ينصرفون من بين يدي الله تعالى لأجل القيام بأمور لا تخلو من حُسْن، فإنَّهم يرجعون إلى الله تعالى في خلوتهم معه، معتبرين ما صدر عنهم بأنه ذنب، وعليهم أن يستغفروا الله بسببه. وهذا من مصداق القول المعروف: “حسنات الأبرار سيِّئات المقرّبين”10.
والخلاصة:
أوّلاً: إنّ الذنب لا يعني -دائمًا- الإثم باعتباره معصية لأوامر الله الإلزامية.
ثانياً: إنّ الذنب قد يُطلق على أمر حسن بذاته، لكنّه ليس كذلك باعتبار مقام بعض الناس وأولويّاتهم.
ثالثاً: إنّ الذنب قد يُطلق على أمرٍ ليس فيه قبح ذاتي، إلاّ أنّه يُعدّ جرمًا لبعض الاعتبارات دون بعضها الآخر.
الذنب في آية الفتح
إنَّ ما تقدَّم يصحّ جوابًا على الآية الأولى والثانية المتقدِّمتين في طيَّات السؤال السابق، أمّا آية الفتح، وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾11، فإنّ لها تفسيرًا خاصًّ، هو أنّ المراد من الذنب منها هو التبعة السيّئة التي كانت لدعوته صلى الله عليه وآله وسلم عند المشركين، فقد تأذَّى المشركون كثيراً من دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، التي اعتبروها مقوِّضة لأركان تراثهم، وما يعتبرونه دِيناً لهم، وبالتالي لعزّتهم وكرامتهم أمام سائر العرب وغيرهم. لذا كانوا يعتبرون ما قام به النبِّي صلى الله عليه وآله وسلم من الدعوة إلى الإسلام، ومناهضة عبادتهم للأوثان ذنبًا كبيرًا، أرادوا أن يؤكِّدوا نظرة الناس إليه كذَنْب، ويروِّجوا ذلك في أوسع بقعة يتمكنون منها.
ولأجل ذلك شنّوا هجومًا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ بداية الإعلان عن دعوته، من خلال الدعاية المُشوِّهة لصورته ودينه الذي كان صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم إليه، فنعتوه بالساحر والمجنون والشاعر المختلق للقرآن، بل ورد أنهم كانوا في مواسم الإقبال على مكة يجعلون بعض رجالهم قرب النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليشوِّشوا عليه، ويشوِّهوا صورته بنعته بتلك الصفات السلبية.
وقد أثَّرت هذه الدعاية بشكل كبير في العرب، فحالت بين عقولهم، وتأثُّرها بالمنطق النبويّ، وبين قلوبهم، وتوجُّهها نحو رسالته الإلهية.
نعم لقد اختلق أهل قريش قضية كاذبة حول شخصية النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته، وعمَّموها على البلدان، وسيطروا بها على عقول كثير من العرب وقلوبهم، فأصبحت عقولهم وقلوبهم مُغلقة أمام دعوة الإسلام.
لقد كان عمل أهل قريش يُركّز على إدراك الإنسان، لأنّ من يستطيع السيطرة عليه يُمكنه تسيير الإنسان بالوجهة التي يريد، إذ أنّ سلوك الإنسان تابع لإدراكه وعلمه، وليس لواقعيّة الشيء، فالإنسان الذي تقترب منه أفعى سامّة، وهو لا يعلم بوجودها، فإنّه لا يتحرك من مكانه، ولا يهرب منها، فإذا علم بها، فإنه يتحرك هاربًا، وهذا يدلُّ على أنّ الذي يحرِّك الإنسان، ويؤثِّر في سلوكه، هو إدراكه، وليس وجود الشيء الواقعيّ.
وهكذا نلاحظ أنّ نظرة الإنسان إلى الإنسان الآخر، وسلوكه معه، لا يكونان بحسب ما هو عليه الآخر من واقع، بل بحسب إدراك الإنسان الذي قد يكون وهمًا لا حقيقة. بل إنّ الإنسان قد لا يتفاعل مع قيمة عالية لعدم إدراكه لها، فقد يطوف المؤمن حول الكعبة الشريفة وكتفه إلى جنب كتف إمام الزمان وصاحب العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف، لكنه لا يتأثّر بذلك بسبب عدم معرفته به، في حين أنّه لو عرفه ستكون حالته مما يصعب توصيفها. وقد يعتقد الإنسان بمقام إنسان آخر، فيقدِّره، ويحترمه، ويجلّه، مع أنّه قد يكون واهمًا في اعتقاده.
إذًا ما يحرِّك الإنسان ويؤثِّر في سلوكه هو إدراكه، وليس الواقع المجرَّد عن ذلك الإدراك.
وهذا يسري على حال الفرد والمجتمع، فإنّ من يريد أن يغيِّر مجتمعًا ما عليه أن يسيطر على إدراك أبنائه ليحصل التغيير، فيمكن للإنسان أن يحوِّل أسطورة وهمية إلى حقيقة في أذهان الناس، ويتمكّن من جعلهم يعتبرونها قضية حقَّة، يرتِّبون عليها الآثار والنتائج،كما هو الحال في اختراع اليهود قصة “الهولوكست” (المحرقة اليهودية)، التي استطاعوا أن يزرعوها كحقيقة في أذهان الكثير من الناس في العالم، كقضية تعبِّر عن قمة المظلوميّة للشعب اليهودي، حتى أثَّر ذلك في الحكومات التي تدَّعي حُرِّية التعبير والفكر في العالم الغربي، فإذا بها تحكم بالسجن والملاحقة على مُفكِّرين كبار، لأنهم شكَّكوا في قصة “الهولوكوست”.
وكذلك قصة “الماسادا” التي تحكي عن قتل 900 يهودي لم يُسلِّموا أنفسهم للرومان في ملحمة بطوليّة مزعومة، فإنّ المحققين يؤكِّدون أنَّها لا أثر لها في التاريخ، سوى ما رُويَ عن مجموعة من المشاغبين اليهود، انتحروا أثناء حصارهم من قبَل الرومان.ومع ذلك جعل اليهود “الماسادا” رمزًا للتضحية، حتى إنّ الجنديّ الإسرائيليّ يذهب إلى نُصب “الماسادا” حينما يريد أن يقسم يمين الولاء للكيان الصهيونيّ.
وهكذا حال الكثير من القضايا المُخترَعة التي يُحوِّلها الإعلام من خلال معركة الإدراك والوعي إلى ما يعتقده الآخرون حقائق. كما تفعل اليوم أمريكا في حربها الناعمة ضدّ الإسلام وقيمه.
وبالعودة إلى أهل قريش الكافرين، فقد مارسوا لعبة الإدراك بذكاء وشيطنة، حتى استطاعوا أن يؤثِّروا في عقول العرب وقلوبهم بشكل كبير، بحيث إنَّ الدعاية المنتشرة المشوِّهة لصورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودينه أضحت قابلة للاستمرار بشكل مركّز في المستقبل.
فعقول العرب وقلوبهم كانت مُغلقة بشكل مُحكم، قابل للاستمرار والبقاء، بحيث كان ذلك مانعًا من دخولهم إلى دين الله تعالى.وبعبارة أُخرى كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نظرهم مُذنبًا ذنبًا كبيرًا، كما تقدَّم في ما قام به من الدعوة، وسيستمرُّ ذنبه في المستقبل طالما هو سائر في دعوته.
من هنا كان هذا الإغلاق للعقول والقلوب مانعًا من دخول الناس في دين الله أفواجًا، فكان فتح مكّة هو فتح لعقول الناس وقلوبهم، وهو محوٌ للدعاية السابقة المشوَّهة لصورة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، كما كان دافعًا لتلك الدعاية اللاحقة، بهذا المعنى، غفر الله للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ذنبه المتقدِّم والمتأخِّر معًا.
* كتاب يسألونك عن الأنبياء، سماحة الشيخ أكرم بركات.
1- سورة غافر، الآية 55..
2- سورة النصر، الآية 3.
3- سورة الفتح، الآيتان 1-2.
4- سورة المائدة، الآية 64.
5- سورة القصص، الآية 88.
6- سورة طه، الآية 39.
7- سورة القلم، الآية 42.
8- سورة الإسراء، الآية 23.
9- ابن فارس،أحمد، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، (لا.ط)، قم مكتب الإعلام الإسلامي، 1404 هـ،ج 22 ص 349- الجوهري، الصحاح تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، ط4،
بيروت، دار العلم للملايين،، 1407 ه، ج1، ص 129.
10- الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، الجواهر السنية،(لا،ط)، النجف، مطبعة النعمان، 1964م. ص83.
11- سورة الفتح، الآيتان 1-2.