يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾1
تمهيد
الصراع بين الحقّ والباطل أزليّ، وسيستمرّ حتّى يأذن الله تعالى بإظهار أمره: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾2، ﴿وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾3، فلا بدّ من مجيء الحقّ وزهوق الباطل: ﴿وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقً﴾4، ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾5.
وهذا الصراع المرير اتخذ أشكالاً عدّة على مرّ العصور، واستخدمت شتّى الطرق والوسائل في مواجهة الحقّ؛ فقد أُسيء إلى الأنبياء والرسل والأئمّة عليهم السلام، وأستُهزئ بهم وكُذبوا، بل قُتّلوا وشُرّدوا، قال تعالى: ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون﴾6 وقال تعالى: ﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾7 وقال تعالى: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون﴾8.
وأخبر الله تعالى في كتابه كيف أُسيئ إلى أنبيائه ورسله، ولكنّ الله تعالى ينصر رسله على الكافرين، قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾9 وقال تعالى: ﴿وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾10.
ونبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نال النصيب الأكبر من الإساءة والاستهزاء، سواء من المشركين والكافرين، أم من أهل الكتاب، أم من المنافقين والمرتدين، بل حتّى من بعض من يدّعي اتباعه صلى الله عليه وآله وسلم والإيمان به، وسواء في حياته أم بعد مماته، حتّى قال صلى الله عليه وآله وسلم: “ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت”11.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوً﴾12، وقال عزّ وجلّ: ﴿وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولً﴾13.
فما زالت الإساءات تصدر بحقّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من كلّ حدب وصوب، ولن تنتهي طالما هناك من يُعادي ويحقد على الإسلام ورسوله الأمين صلى الله عليه وآله وسلم وكتابه الكريم، وهذه العداوة قديمة منذ بعثته صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد بيّن الله تعالى في موارد عديدة من كتابه أنواع وأشكال الإساءة والأذيّة له صلى الله عليه وآله وسلم، مع بيان عاقبة من استهزأ به صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنّ الله تعالى وعد رسله عموماً ونبيّه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً بالانتقام والكفاية ممّن استهزأ به، وهذا غير محصور بحياته صلى الله عليه وآله وسلم، بل ماض إلى يوم القيامة، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾14، ولقوله تعالى: ﴿وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾15.
ولا يخفى أنّ الله تعالى لا ينصر نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم بالغيب فقط، بل بتوسّط التكليف بوجوب النصرة، فلا يصحّ التعذّر بالغيب والسلطنة الإلهيّة، لعدم النصرة على قاعدة أنّ للبيت ربّ يحميه، كما يمكن أن يصدر عن بعض ضعاف النفوس والمتخاذلين عن نصرة دين الله تعالى ونبيّه صلى الله عليه وآله وسلم وكتابه، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾16.
وقال عزّ وجلّ: ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلً﴾17، وقال تعالى: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ﴾18.
الوسائل الّتي حورب بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
نشير إلى بعض الإساءات الّتي صدرت من المشركين والمنافقين في حياته صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف أنّ الله تعالى دافع عن نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم ، ويمكن تقسيم هذه الإساءات إلى إساءات معنويّة وإلى إساءات ماديّة.
الإساءات المعنوية
1- الاتهام بالسحر والشعوذة
فمن تلك الإساءات اتهامه بالسحر، قال الله تعالى في مقام الاحتجاج: ﴿أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ﴾19.
فإنّ المشركين أمام قوّة المعجزة رموا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالسحر، كما في قصّة نزول سورة القمر، قال تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ﴾20.
فعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام: “اجتمعوا أربعة عشر رجلاً أصحاب العقبة ليلة أربعة عشر من ذي الحجّة، فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ما من نبيّ إلّا وله آية فما آيتك في ليلتك هذه؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما الّذي تريدون؟ فقالوا إن يكن لك عند ربّك قدر فآمر القمر أن ينقطع قطعتين، فهبط جبرئيل عليه السلام وقال: يا محمّد إنّ الله يقرؤك السلام ويقول لك: إنّي قد أمرت كلّ شيء بطاعتك، فرفع رأسه فأمر القمر أن ينقطع قطعتين، فانقطع قطعتين فسجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم شكراً لله وسجد شيعتنا، رفع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رأسه ورفعوا رؤسهم، ثمّ قالوا يعود كما كان فعاد كما كان، ثمّ قالوا ينشق رأسه فأمره فانشقّ فسجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم شكراً لله وسجد شيعتنا، فقالوا يا محمّد حين تقدم سفارنا من الشام واليمن فنسألهم ما رأوا في هذه الليلة فإنّ يكونوا رأوا مثل ما رأينا علمنا أنّه من ربّك وإن لم يروا مثل ما رأينا علمنا أنّه سحر سحرتنا به، فأنزل الله اقتربت الساعة إلى آخر السورة”21.
وقال تعالى حكاية عن أحد المشركين: ﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾22، وهذه الآيات “نزلت في الوليد بن المغيرة وكان شيخاً كبيراً مجرّباً من دهاة العرب، وكان من المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقعد في الحجرة ويقرأ القرآن فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة، فقالوا: يا أبا عبد شمس ما هذا الّذي يقول محمّد أشعر هو أم كهانة أم خطب؟ ! فقال دعوني أسمع كلامه، فدنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمّد أنشدني من شعرك، قال: ما هو شعر ولكنّه كلام الله الّذي ارتضاه لملائكته وأنبيائه، فقال: أتل علىّ منه شيئاً، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حم السجدة فلما بلغ قوله ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا﴾23 – يا محمّد – أعني قريشاً – ﴿فَقُلْ﴾ لهم ﴿أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾24، قال: فاقشعرّ الوليد وقامت كلّ شعرة في رأسه ولحيته ومرّ إلى بيته ولم يرجع إلى قريش من ذلك، فمشوا إلى أبي جهل فقالوا: يا أبا الحكم إنّ أبا عبد شمس صبا إلى دين محمّد أما تراه لم يرجع الينا، فغدا أبو جهل فقال له: يا عم نكّست رؤوسنا وفضحتنا وأشمت بنا عدونا وصبوت إلى دين محمّد، فقال: ما صبوت إلى دينه ولكنّي سمعت منه كلاماً صعباً تقشعرّ منه الجلود، فقال له أبو جهل: أخطب هو؟، قال: لا إنّ الخطب كلام متّصل وهذا كلام منثور ولا يشبه بعضه بعضاً قال: أفشعر هو؟، قال: لا، أما إنّي قد سمعت أشعار العرب بسيطها ومديدها ورملها ورجزها وما هو بشعر، قال فما هو؟، قال: دعني أفكّر فيه، فلمّا كان من الغد قالوا يا أبا عبد شمس ما تقول فيما قلناه؟، قال: قولوا هو سحر فإنّه أخذ بقلوب الناس”25.
2- الاتهام بالجنون والشعر
قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ * بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ﴾26، قال في الميزان: “رموه صلى الله عليه وآله وسلم بالشعر والجنون وفيه رمي لكتاب الله بكونه شعراً ومن هفوات الجنون، فرد ّعليهم بأنّ ما جاء به حقّ، وفيه تصديق الرسل السابقين فليس بباطل من القول كالشعر وهفوة الجنون وليس ببدع غير مسبوق في معناه”27.
وقال تعالى: ﴿وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ﴾28، وفي التعبير عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: “صاحبكم تكذيب لهم في رميهم له بالجنون وتنزيه لساحته – كما قيل – ففيه إيماء إلى أنّه صاحبكم لبث بينكم معاشراً لكم طول عمره، وأنتم أعرف به قد وجدتّموه على كمال من العقل ورزانة من الرأي وصدق من القول، ومن هذه صفته لا يُرمى بالجنون”29.
وقالوا عن كلام الله تعالى: ﴿بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾30، وقال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ* قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ﴾31، فأجابهم الله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾32.
3- الاتهام بالضلال والغواية والنطق عن الهوى
روي عن أبي عبد الله عليه السلام: “لمّا أوقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين عليه السلام يوم الغدير، افترق الناس ثلاث فرق، فقالت فرقة: ضلّ محمّد، وفرقة قالت: غوى، وفرقة قالت: بهواه يقول في أهل بيته وابن عمّه، فأنزل الله سبحانه: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾33“34.
4- التعيير بعدم العقب
وممّا عُيّر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم به هو عدم العقب الذكر، ممّا كان يشكّل نقص في العرف الجاهليّ، فقد دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسجد وفيه عمرو بن العاص والحكم بن أبي العاص قال عمرو: “يا أبا الأبتر! وكان الرجل في الجاهليّة إذا لم يكن له ولد سمّي أبتر، ثمّ قال عمرو: إنّي لأشنأ محمّداً أي أبغضه فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾35 أي مبغضك عمرو بن العاص ﴿هُوَ الْأَبْتَرُ﴾36 يعني لا دين له ولا نسب”37.
5- التكذيب بالرسالة والنبوّة
يقول تعالى: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾38، وذلك أنّهم كذّبوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته، فتوعّدهم بشتّى ألوان العذاب والخزي.
6- التعيير بالأتباع
فقد عيّر زعماءُ قريش النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأتباعه، كما عيّر فرعون النبيّ موسى عليه السلام بأتباعه، فقال له: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾39، فقال الله تعالى للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾40.
7- إساءة المنافقين
ولعلّ هذا النوع من الإساءة كانت أشدّ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أهل بيته والمخلصين من صحابته، لكونها تنخر من داخل البيئة الحاضنة للإسلام، فكانوا يثيرون الفتن وينشرون الشائعات، ويساندون اليهود ويخوّنون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد كشف زيفهم ونفاقهم وأخبر الله عنهم في كتابه في وقائع متعدّدة:
منها أنّهم كانوا ﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ * اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾41، وعن الإمام الكاظم عليه السلام: “فأمّا استهزاء الله تعالى بهم في الدنيا فهو أنّه – مع إجرائه إيّاهم على ظاهر أحكام المسلمين، لإظهارهم ما يظهرونه من السمع والطاعة، والموافقة – يأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتعريض لهم حتّى لا يخفي على المخلصين من المراد بذلك التعريض، ويأمر بلعنهم.
“وأمّا استهزاؤه بهم في الآخرة فهو أنّ الله عزّ وجلّ إذا أقرّهم في دار اللعنة والهوان وعذّبهم بتلك الألوان العجيبة من العذاب، وأقرّ هؤلاء المؤمنين في الجنان بحضرة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم صفيّ الملك الديّان أطلعهم على هؤلاء المستهزئين الّذين كانوا يستهزؤن بهم في الدنيا، حتّى يروا ما هم فيه من عجائب اللعائن وبدائع النقمات، فتكون لذّتهم وسرورهم بشماتتهم بهم، كما لذّتهم وسرورهم بنعيمهم في جنّات ربّهم”42.
وكانوا يستهزؤون بكلّ ما يأمر به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ﴾43.
﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ﴾44.
وكانوا ﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾45، والقائل هو عبد الله بن أبي بن سلول، وكذا قائل الجملة السابقة: ﴿لَا تُنفِقُو﴾46 الخ، وإنّما عبّر بصيغة الجمع تشريكاً لأصحابه الراضين بقوله معه. ومراده بـ﴿الْأَعَزُّ﴾47 نفسه وبـ ﴿الْأَذَلَّ﴾48 رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويريد بهذا القول تهديد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بإخراجه من المدينة بعد المراجعة إليها، وقد ردّ الله عليه وعلى من يشاركه في نفاقه بقوله: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾49، فقصر العزّة في نفسه ورسوله والمؤمنين فلا يبقى لغيرهم إلا الذلّة، ونفى عن المنافقين العلم فلم يبق لهم إلّا الذلّة والجهالة50.
8- التكذيب بالنصّ على الإمام عليّ عليه السلام
عن الإمام الباقر عليه السلام في قوله تعالى﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾51: “أعداؤه ومن كان يهزأ بأمير المؤمنين وهم الّذين قالوا هذا صفيّ محمّد من بين أهله، وكانوا يتغامزون بأمير المؤمنين فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾52“53.
* كتاب إلا رحمة للعالمين، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- سورة الحجر، الآيات: 94 99.
2- سورة التوبة، الآية: 33.
3- سورة الأنفال، الآية: 7.
4- سورة الإسراء، الآية: 81.
5- سورة الأنبياء، الآية: 18.
6- سورة الزخرف، الآية: 7.
7- سورة البقرة، الآية: 87.
8- سورة يس، الآية: 30.
9- سورة غافر، الآية: 51.
10- سورة الصافات، الآية: 116.
11- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج39، ص56.
12- سورة الأنبياء، الآية: 36.
13- سورة الفرقان، الآية: 41.
14- سورة الحجر، الآية: 95.
15- سورة المائدة، الآية: 67.
16- سورة الحديد، الآية: 25.
17- سورة الفتح، الآية: 9.
18- سورة التوبة، الآية: 40.
19- سورة الطور، الآية 15.
20- سورة القمر، الآيتان: 1 و2.
21- تفسير القمي، ج2، ص341.
22- سورة المدثر، الآيتان: 24 و 25.
23- سورة فصلت، الآية: 13.
24- سورة فصلت، الآية: 13.
25- بحار الأنوار، ج2، ص394.
26- سورة الصافات، الآيتان: 36 37.
27- سورة التكوير، الآية: 22.
28- سورة التكوير، الآية:22.
29- بحار الأنوار، ج20، ص218.
30- سورة الأنبياء، الآية: 5.
31- سورة الطور، الآيتان: 30 و31.
32- سورة الحاقة، الآيات: 40 43.
33- سورة النجم، الآيات: 1 4.
34- تفسير البرهان، ج5، ص188.
35- سورة الكوثر، الآيات: 1 3.
36- سورة الكوثر، الآية: 3.
37- تفسير القمّي، ج2، ص445.
38- سورة المطففين، الآيات: 10 17.
39- سورة هود، الآية: 27.
40- سورة الأنفال، الآية: 64.
41- سورة البقرة، الآيتان: 14 15.
42- تفسير البرهان، ج1، ص144.
43- سورة المائدة، الآية: 58.
44- سورة التوبة، الآية: 65.
45- سورة المنافقون، الآية: 8.
46- سورة المنافقون، الآية: 7.
47- سورة المنافقون، الآية: 8.
48- سورة المنافقون، الآية: 8.
49- سورة المنافقون، الآية: 8.
50- الميزان في تفسير القرآن، ج19، ص282.
51- سورة الحجر، الآية: 95.
52- سورة الحجر، الآية: 97.
53- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر أشوب، ج3، ص8.