إذا طالعنا القرآنَ من ناحية البناء وترتيب السُّور فنلحظ أنّ للدعاءِ مكانةً مميّزةً في السُّورة الأولى _الفاتحة_ وإذا طالعنا الإشارات التاريخية فيه، نجده يسجّل ومضة بكر وهي أنّ آدمَ (ع) أول من ابتهل بالدعاء إلى الله (عزّ وجل).
ولعلَّ ما لم يلحظه أغلب الدارسين وهم يؤرّخون لظهور الآدابِ والفنونِ هو الدعاء بوصفه أدبًا وأيّ أدب _ إذ ظهر منذ فجر الإنسانية _ البعضُ يعدّه دخيلًا والبعضُ يراه متأخرًا في الظهور.
ولكن من ينصت إلى القرآنِ الكريمِ يرى غيرَ ذلك؛ فللدعاء الصدارة دائمًا وهو من أوائِل ما لهج به الإنسان؛ فإذا طالعنا القرآنَ الكريمَ من ناحية البناء وترتيب السُّور فنلحظ أنّ للدعاءِ مكانةً مميّزةً في السُّورة الأولى _الفاتحة_ وإذا طالعنا الإشارات التاريخية فيه، نجده يسجّل ومضة بكر وهي أنّ آدمَ (عليه السلام) أول من ابتهل بالدعاء إلى الله (عزّ وجل) فبعد أن أكل (عليه السلام) وزوجه من الشجرة المنهيِّ عنها وبدتْ لهما سوءاتهما، ابتهلا إلى الله سبحانه بقولهما: “رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ”.
فكان ابتهالهما هذا أوّلَ دعاءٍ يصدح به الإنسان. والمتبادرُ إلى الذهن ونحن نقرأ هذه الآية _دعاء آدم_ من علّم آدم الدعاء؟ ولا أعني الصيغةَ التي يدعو بها بل أعني سُنَّةَ الدعاءِ وفلسفته وأثره؟! ولم يكن الدعاءُ في القرآن الكريم زينةً أو زُخرفًا بل كان ضرورةً ملحّة دعتْ الحاجة إليه والفطرة.
فالدعاءُ القرآنيّ كانَ يختصرُ ثنائية (العبد_ الربّ)، الدعاءُ كان ملجأ العبد الوحيد حين تشتدُّ به النوائبُ ويعجز عن الاهتداءِ إلى السبيلِ، وكما يأنس الطفل بمحالب أمه دونَ معلّمٍ كذلك يأنس العبدُ بالدعاء من دون معلّم أيضًا.
ويمكن تسليط الضوء فيما تبقى على أثر السياق والمقام في الدعاء وأيضا على الأثر النفسي في الاستعمال، وعلى بعض جماليات الدعاء الفنية في القرآن الكريم بوصفه أدبًا، وذلك باختيار لفظ (ربّ) مثالًا.
ولأنّ الربَّ مجمعُ جميع أسماء أفعال الله المقدّسة، ولأنّ جميعَ أفعاله تبارك وتعالى مُتشعّبةٌ من جهة تدبيره تعالى وتربيته في كلِّ موجودٍ بحسبه، فالربُّ مظهر الرحمة والخلق والقدرة والتَّدبير والحكمة.
لكلِّ هذه الاسباب وغيرها أدَّت إلى أنه لم يرد في القرآن الكريم دعاءٌ من عباده إلا مُصَدَّراً باسم الرب _بحسب ما يذكر أحد العلماء. قال تعالى: “رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ” (البقرة_286).
هناك فنون بلاغية عِدَّة في هذه الآية _في هذا الدعاء القرآني_ وهي الآية الأخيرة من سورة البقرة، السّورة التي اشتملت على العديد من الأحكام والتشريعات، يمكن إجمال هذه الفنون بـ(حسن الختام)، أي منزلة عظيمة إذن للدعاء حتى خُتمت به هذه السورة المباركة.
وفي تكرار كلمة (ربّ) في هذه الآية، رجاء بعث الرحمة من الرب وإظهار العبودية من المربوب إذ إنّ في هذا الاسم الشريف خصوصية لا توجد في غيره عند الدعاء، كما لا يخفى مجيء الدعاء على سبيل الجمع بوصف الاتحاد هو الموجب للنصرة وفيه أيضا نبذ الفرقة والاختلاف.
إنّ تكرار (ربّ) له بعد وأثر نفسيّ وهو يكشف عن نفسية الداعي، فالعبد حينما يكون في حالة طلب وحاجة فإنّه يكرر ألفاظَ الدعاءِ والثناء بشكل لا شعوري ربما، كما في قوله تعالى “رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ” (البقرة_127) وحينما يتعلّق الأمر بطلب نزول معجزة نلحظ أن الدَّاعي يستعمل أكثر من صيغة للثناء، كما في طلب عيسى (عليه السلام) نزول مائدة من السماء؛ إذ استعمل (اللَّهُمَّ رَبَّنَا)، وهو الدعاء الوحيد في القرآن الذي جاء بهذه الصيغة.
ويقول عزّ وجلّ: “اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ “ ( المائدة _114) فقد دعا عيسى (عليه السلام) لإنزال المائدة بمجامع التوحيد كلها، وذلك قوله (اللهم) وثنَّى بمجامع الرعاية وما يثير الشفقة، ويظهر الضعف والفقر، أيّ أنّه ثنَّى بما يحقق فيض الرِّعاية والعطاء من فيوضات الإله الحقّ، وثلَّث بمجامع الرِّزق وما يستنزل به الخير والبركة، ولا يفوت هنا تسجيل دلالة الازل، والبقاء المطلق بنفسه التي يشير إليها استعمال الربّ في السياق القرآنيّ. ونلحظ تكرار لفظ (ربّ) سبع مرات في دعاء قرآنيّ آخر على لسان نبي الله إبراهيم عليه السلام، منه قوله تعالى : “رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ .رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ…” (إبراهيم 40_41).
وأفاد تكرار لفظ الرب حالة الانقطاع إلى الله تعالى أكثر من غيره؛ إذ ليس في أسمائه المقدّسة أعمّ نفعًا وأكمل عنايةً ولطفًا من اسم (الربّ).
ومما يؤكّد ما ذكرناه من أن في لفظ الرب خصوصية لا توجد في غيرها، كونها لا تصدر إلا من المُوَحِّدِينَ، في حين تصدر لفظ (اللهم) الذي يأتي _غالبا_ في سياق الدعاء، نلحظه يصدر في القرآن على لسان الكافرين أيضا، الذين يجحدون نعمة الله عز وجل، ويتحدَّونه سبحانه بإنزال العذاب “وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ” (الانفال_32).
ولم يجد الدعاء القرآنيّ أرضًا خصبةً للنمو إلّا في محاريب آلِ محمد عليهم السلام؛ إذ اعتنى أهلُ البيتِ كثيرًا بالدعاء وتحوَّلتْ هذه الأدعية القرآنية القصيرة إلى أدعية مستقلّة وإلى صحف كاملة كما عند الإمام عليّ (عليه السلام) والصحيفة السجادية للإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام) وسائر الأئمة (عليهم السلام)، مشكّلة أدبا خاصًّا بات يُعرف بـ(أدب الدعاء).