Search
Close this search box.

الإمام الحسن بعد استشهاد أبيه عليه السلام

الإمام الحسن بعد استشهاد أبيه عليه السلام

لقد اشترك الإمام الحسن مع أبيه في حياته السياسية والعسكرية وكان بجانبه في كل حروبه وكان له دور حاسم فيها، حيث خاض تلك المعارك وأخمد تلك الفتن مجرداً من كل دافع سوى دافع الحرص على نقاء الإسلام.

قبل استشهاد الإمام علي عليه السلام، وفي أيام جرحه أوصى الإمام الراحل إلى ولده الحسن عليه السلام قائلاً له: “يا بنيّ إنه أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أوصي إليك وأدفع إليك كتبي وسلاحي، كما أوصى إليّ ودفع إليّ كتبه وسلاحه وأمرني أن امرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين…الخ”1.

اتجه الإمام الحسن عليه السلام في اليوم الذي تمت فيه مراسم دفن الإمام علي عليه السلام إلى مسجد الكوفة، وقد سبقته الجماهير في حشود هائلة إلى الجامع، وهي تعيش صدمة هول المصاب، باستشهاد قائدها وإمامها الإمام علي عليه السلام وقد غص بهم الجامع على سعته فوقف الحسن عليه السلام خطيباً، وحوله من بقي من وجوه المهاجرين والأنصار، وهو يوجه أول بيان له بعد رحيل القائد العظيم عليه السلام مؤبناً أباه ومعرفاً بنفسه للجماهير قائلاً: “لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل ولم يدركه الاخرون بعمل، لقد كان يجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقيه بنفسه وأينما وجهه رسول الله كان جبرائيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره فلا يرجع حتى يفتح الله عليه”.

ثم تمثل له أبوه وما عاناه في حياته من الالام والمتاعب، ليتوقف عن الإسترسال بخطبته حتى بكى وبكى معه الناس.
ثم استأنف عليه السلام بيانه معرفاً بنفسه وطارحاً مواصفات القائد الراحل كما طرح مؤهلاته هو ومكانته في الإسلام ولدى المسلمين وكونه الأولى بقيادتهم، قائلاً: “أيها الناس من عرفني ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي وأنا ابن النبي والوصي وأنا ابن البشير النذير والداعي إلى الله بإذنه وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت عليه السلام الذين كان جبرائيل ينزل إلينا ويصعد من عندنا، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وافترض مودتهم على كل مسلم”2.

وبعد الفراغ من قراءة بيانه نهض ابن عباس يطلب من الناس البيعة للحسن عليه السلام بقوله: “معاشر الناس، هذا ابن نبيكم ووصي إمامكم فبايعوه”.
وقد تمت البيعة للحسن عليه السلام خليفةً وأميراً للمؤمنين في الكوفة وفي أمصار أخرى كالحجاز واليمن وفارس، وسائر المناطق الإسلامية الأخرى، وكان أول من بايع هو قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري3.

الإمام في الحكم وظروف الصلح وأسبابه:

تولى الإمام الحسن عليه السلام مسؤولية الخلافة في مناخ قلق غير مستقر وفي ظروف التعقيد والصراع، والتي برزت وتأزمت في أواخر حياة أبيه الإمام علي عليه السلام.
لقد كانت حروب الجمل وصفين والنهروان. والحروب الخاطفة التي نشبت بين القطع السورية وبين مراكز الحدود في العراق والحجاز واليمن بعد التحكيم قد ولدت عند أصحاب الإمام عليه السلام حنيناً إلى السلم والموادعة، فقد مرّت عليهم خمس سنين وهم لا يضعون سلاحهم من حرب إلا ليشهروه في حرب أخرى، وكانوا لا يحاربون جماعات غريبة عنهم، وإنما يحاربون عشائرهم وإخوانهم بالأمس، ومن عرفهم وعرفوه..

وقد عبر الناس عن رغبتهم في الدعة وكراهيتهم للقتال بتثاقلهم عن الخروج لحرب الفرق السورية التي كانت تغير على الحجاز واليمن وحدود العراق، وتثاقلهم عن الإستجابة للإمام حين دعاهم للخروج ثانية إلى صفين.

فلما استشهد الإمام علي وبويع الحسن بالخلافة برزت هذه الظاهرة على أشدها وبخاصة حين دعاهم الحسن للتجهز لحرب الشام، حيث كانت الإستجابة بطيئة جداً.
وبالرغم من أن الإمام الحسن عليه السلام قد استطاع بعد ذلك أن يجهز لحرب معاوية جيشاً ضخماً إلا أنه كان جيشاً كتبت عليه الهزيمة قبل أن يلاقي العدو بسبب التيارات المتعددة التي كانت تتجاذبه، فقد:
“خف معه أخلاط من الناس: بعضهم شيعة له ولأبيه، وبعضهم محكمة أي خوارج يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم، وبعضهم شكاك، وأصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم”4.

وقد كان رؤساء القبائل هؤلاء قد باعوا أنفسهم من معاوية، الذي كتب إلى كثير منهم يغريهم بالتخلي عن الحسن والإلتحاق به، وأكثر أصحاب الحسن لم يستطيعوا مقاومة هذا الإغراء فكاتبوا واعدين بأن يسلموه الحسن حياً أو ميتاً. وحين خطبهم الإمام الحسن عليه السلام ليختبر مدى إخلاصهم وثباتهم هتفوا به من كل جانب: “البقية البقية”، بينما هاجمته طائفة منهم تريد قتله، هذا في الوقت الذي أخذ الزعماء يتسللون تحت جنح الليل إلى معاوية بعشائرهم.

ولما رأى الإمام الحسن عليه السلام أمام هذا الواقع السيئ أن الظروف النفسية والإجتماعية في مجتمع العراق جعلت هذا المجتمع عاجزاً عن النهوض بتبعات القتال وانتزاع النصر، ورأى أن الحرب ستكلفه استئصال المخلصين من أتباعه بينما يتمتع معاوية بنصر حاسم، حينئذٍ جنح إلى الصلح بشروط منها: ألا يعهد معاوية لأحد من بعده، وأن يكون الأمر للحسن، وأن يترك الناس ويؤمنوا.

ولقد كان هذا هو الطريق الوحيد الذي يستطيع الحسن أن يسلكه باعتباره صاحب رسالة قد اكتنفته هذه الظروف السيئة المؤسفة.
لقد كان من الممكن بالنسبة لقائد محاط بنفس الظروف السيئة التي كان الإمام الحسن عليه السلام محاطاً بها أن يتخذ من الأحداث أحد ثلاثة مواقف:
الأول: أن يحارب معاوية رغم الظروف السيئة، ورغم النتائج المؤلمة التي تترتب على هذا الموقف.
الثاني: أن يسلم السلطة إلى معاوية، وينفض يده من الأمر، ويتخلى عن أهدافه، ويقنع بالغنائم الشخصية.
الثالث: أن يخضع للظروف المعاكسة فيتخلى مؤقتاً عن الصراع الفعلي المسلح، لكن لا ليرقب الأحداث فقط، وإنما ليكافح على صعيد اخر، فيوجه الأحداث في صالحه وصالح أهدافه.

ما كان للحسن باعتباره صاحب رسالة أن يتخذ الموقف الأول، لأنه لو حارب معاوية في ظروفه التي عرضناها، وبقواه المفككة المتخاذلة لكانت نتيجة ذلك أن يقتل ويستأصل المخلصون من أتباعه، ولا شك أنه حينئذٍ كان يحاط بهالة من الإكبار والإعجاب لبسالته وصموده، ولكن النتيجة بالنسبة إلى الدعوة الإسلامية ستكون سيئة إلى أبعد حد، فإنها كانت ستفقد فريقاً من أخلص حماتها دون أن تحصل على شي‏ء سوى أسماء جديدة تضاف إلى قائمة شهدائها.

كذلك ما كان له باعتباره صاحب رسالة أن ينفض يده من كل شي‏ء ويسترسل في حياة الدعة والرغد، والخلو من هموم القيادة والتنظيم.
لقد كان الموقف الثالث وهو الموقف الذي اتخذه الإمام الحسن عليه السلام هو الموقف الوحيد الصحيح بالنسبة إليه، وذلك أن يعقد مع معاوية هدنة يعد فيها المجتمع للثورة.

وذلك لأننا نسمح لأنفسنا أن نقع في خطأ كبير حين ننساق إلى الإعتقاد بأن الإمام الحسن عليه السلام قد اعتبر الصلح خاتمة مريحة لمتاعبه، فما صالح الإمام الحسن عليه السلام ليستريح، وإنما ليكافح من جديد ولكن على صعيد اخر.

فإذا كان الناس قد كرهوا الحرب لطول معاناتهم لها ورغبوا في السلم انخداعاً بحملة الدعاية التي بثها فيهم عملاء معاوية، إذ منوهم بالرخاء والأعطيات الضخمة، والدعة والسكينة، وطاعة لرغبات زعمائهم القبليين، فإن عليهم أن يكتشفوا بأنفسهم مدى الخطأ الذي وقعوا فيه حين ضعفوا عن القيام بتبعات القتال، وسمحوا للأماني بأن تخدعهم ولزعمائهم بأن يضللوهم، ولا يمكن أن يكتشفوا ذلك إلا إذا عانوا هذا الحكم بأنفسهم: عليهم أن يكتشفوا طبيعة هذا الحكم وواقعه، وهو ما يقوم عليه من اضطهاد وحرمان، ومطاردة مستمرة، وخنق للحريات وعلى الإمام الحسن وأتباعه المخلصين أن يفتحوا أعين الناس على هذا الواقع وأن يهيئوا عقولهم وقلوبهم لاكتشافه، والثورة عليه، والإطاحة به.

ولم يطل انتظار أهل العراق، فقد قال لهم معاوية حين دخل الكوفة: “يا أهل الكوفة! أترونني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج؟ وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد اتاني الله ذلك وأنتم كارهون. ألا إن كل دم أصيب في هذه مطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين”5.

ثم اتبع ذلك طائفة من الإجراءات التي صدمت العراقيين:
1- أنقص من أُعطيات أهل العراق ليزيد في أُعطيات أهل الشام.
2- وحملهم على أن يحاربوا الخوارج فلم يتح لهم أن ينعموا بالسلم الذي كانوا يحنون إليه.
3- ثم طبق (شتم أو سب) بحقهم سياسة الإرهاب والتجويع والمطاردة.
4- ثم أعلن سب أمير المؤمنين علي عليه السلام على منابر المسلمين.

وبينما راح الزعماء القبليون يجنون ثمرات هذا العهد بدأ العراقيون يكتشفون رويداً رويداً طبيعة هذا الحكم الظالم الشرس الذي سعوا إليه بأنفسهم، وثبتوه بأيديهم.
“وقد جعل أهل العراق يذكرون حياتهم أيام علي فيحزنون عليها، ويندمون على ما كان من تفريطهم في جنب خليفتهم ويندمون على ما كان من الصلح بينهم وبين أهل الشام، وجعلوا كلما لقي بعضهم بعضاً تلاوموا فيما كان، وأجالوا الرأي فيما يمكن أن يكون، ولم تكد تمضي أعوام قليلة حتى جعلت وفودهم تفد إلى المدينة للقاء الحسن، والقول له والإستماع منه”.

وكثيراً ما جاء العراقيون إلى الحسن عليه السلام يطلبون منه أن يثور، ولكنه كان يعدهم المستقبل ويعدهم للثورة. وها هو يجيب حجر بن عدي الكندي بقوله عليه السلام: “إني رأيت هوى عظم الناس في الصلح، وكرهوا الحرب فلم أُحب أن أحملهم على ما يكرهون، فصالحت بقياً على شيعتنا خاصة من القتل، ورأيت دفع هذه الحرب إلى يوم ما، فإن الله كل يوم هو في شأن”6.

وإذن فهذه فترة إعداد وتهيؤ حتى يأتي اليوم الموعود، حين يكون المجتمع قادراً على الثورة مستعداً لها، أما الان فلم يبلغ المجتمع هذا المستوى من الوعي، بل لا يزال أسير الأماني والامال، هذه الأماني والامال التي بثت فيه روح الهزيمة التي صورها الإمام الحسن عليه السلام لعلي بن محمد بن بشير الهمداني حين قال له: “ما أردت بمصالحتي معاوية إلا أن أدفع عنكم القتل عندما رأيت من تباطؤ أصحابي عن الحرب، ونكولهم عن القتال، ووالله لئن سرنا إليه بالجبال والشجر ما كان بد من إفضاء هذا الأمر إليه”7.

وإذن فقد كان دور الحسن أن يهيئ عقول الناس وقلوبهم للثورة على حكم الأمويين، هذا الحكم الذي كان يشكل إغراءً قوياً للعرب في عهد أمير المؤمنين علي عليه السلام والذي غدا فتنة للعراقيين بعده حملتهم على التخلي عن الإمام الحسن عليه السلام في أحلك الساعات، وذلك بأن يدع لهم فرصة اكتشافه بأنفسهم، مع التنبيه على ما فيه من مظالم، وتعد لحدود الله.

1- أعلام الورى، للطبرسي ص‏206 وكشف الغمة في معرفة الأئمة، ج‏2، ص‏155 والبحار، ج‏42، ص‏250.
2- سيرة الأئمة، الحسني ج 1، ص‏526 وحياة الإمام الحسن، القرشي، ج‏2، ص‏32.
3- ن. م، ص‏557.
4- أعيان الشيعة، قسم أول، ص‏51 50.
5- شرح نهج البلاغة، 16/4.
6- الدينوري، الأخبار الطوال، ص‏220.
7- الأخبار الطوال، ص‏221.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل