سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)
بسم الله الرّحمن الرّحيم ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (المجادلة: 11).
وعن الإمام الصادق عليه السلام: “من تعلّمَ لله، وعمِلَ لله، وعلّمَ لله، دُعيَ في ملكوتِ الله عظيماً، فقيل: تعلّمَ لله، وعمِلَ لله، وعلّمَ لله”().
أتوجّه في البداية إلى عائلة سيّدنا الفقيد والعزيز والكبير بأسمى آيات العزاء ومشاعر المواساة في هذه المناسبة، وعلى هذا الفقد والخسارة الكبيرة للعالم الإسلاميّ، وللفكر الإسلاميّ، وللتحقيق وللعلم، ولأحد مواقع الجهاد الكبرى؛ الجهاد الفكريّ الذي هو جزء أساسيّ من عمليّة الجهاد الكبرى. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمنَّ على هذه العائلة الكريمة وعلى المحبّين كلّهم بالطمأنينة والسكينة والتسليم والرّضى. وهذا هو المتوقّع منهم بطبيعة الحال.
•مؤسّس أجيال العلماء
عندما كان سماحة السيّد جعفر مرتضى رحمه الله طالباً في الحوزة العلميّة، قضى عمره المبارك في طلب العِلم والتّعلُّم والتّعليم والدراسة والتحقيق والتأليف والإجابة عن الأسئلة الدينيّة والثقافيّة والفكريّة المتنوّعة، وكذلك قضى عمره المبارك في تربية طلّاب العلوم الدينيّة، فنشأت على يديه أجيال من العلماء، كما أسّس العديد من الحوزات العلميّة لهذا الهدف، سواء في لبنان أو في قم المقدّسة.
لذلك، فإنّ الطابع العامّ الذي غلب على شخصيّته وعلى حياته هو الطابع العلميّ والاهتمام العلميّ والتربويّ. وقد رأى سماحة السيّد الراحل أنّ تكليفه الشرعيّ أن يصرف وقته كلّه لهذه المساحة المهمّة؛ ليملأ فراغاً كبيراً في هذه الجبهة.
•داعم الثورة
صحيح أنّ سماحة السيّد لم يباشر العمل السياسيّ مباشرةً، ولكنّه كان حاضراً بقوّة في الأحداث الأساسيّة الكبرى؛ لقد كان داعماً للثّورة الإسلاميّة في إيران بقيادة الإمام الخمينيّ قدس سره التي غيّرت وجه المنطقة والعالم عام 1979م، وكذلك كان من مؤيّدي قيام نظام الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران بعد انتصار الثورة، وكانت له علاقاته الواسعة بالقادة الكبار في هذه الثورة، وبالمراجع العظام والعلماء الأجلّاء في الحوزات العلميّة. ومن هذا الموقع كانت له إسهاماته العلميّة المساعدة في الشؤون المختلفة التي تعني الدولة الفَتيَّة، ومن جملتها تدوين الدستور الأوّل للجمهوريّة الإسلاميّة في إيران.
•دور تعبويّ واستنهاضيّ
خلال الحرب المفروضة على الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران على مدى ثماني سنوات، كان سماحة السيّد يذهب إلى الجبهات ليقوم بدوره التعبويّ والاستنهاضيّ، والتحريض على الجهاد والثبات، وكان يعقد الكثير من اللقاءات والدورات التثقيفيّة والتوجيهيّة حتّى مع قادة وضبّاط في القوّات المسلّحة.
•”المهمّ أنّنا انتصرنا”
كان سماحة السيّد -دائماً- من مؤيّدي وداعمي حركات المقاومة في مواجهة الكيان الإسرائيليّ والمشروع الصهيونيّ، وبالتحديد المقاومة الإسلاميّة، حتّى آخر لحظةٍ من حياته. كان يتحدّث عن المقاومة الإسلاميّة في لبنان وانتصارها ومجاهديها في كُتبهِ وخُطَبه ودروسه وأجوبته التي ستبقى ليتوارثها الأجيال، وأيضاً من خلال احتضانه الأبويّ لكثير من مجاهديها.
لقد كان فخوراً جدّاً بالانتصار الذي حقّقته المقاومة وأهلها في تمّوز، كان يقول: “ومهما كانت التضحيات، المهمّ أنّنا انتصرنا”، على الرغم من أنّ مكتبته التي احتوت عشرات الآلاف من الكتب، وعدداً كبيراً من المخطوطات، ومؤلّفاته التي كتبها بخطّ يده، وهي أغلى ما يمكن أن يملكه من يقاتل في الجبهة الفكريّة، ضاعت في القصف والتدمير، الذي لحق بالكثير من البيوت والمنازل ومنها بيته ومركزه.
•خيار مواجهة التكفيريّين
لقد كان سماحته داعماً دائماً لخيار المقاومة في مواجهة الهجمة التكفيريّة الإرهابيّة في المنطقة، في حين ساد بعض الأوساط نقاشٌ في هذا الخيار، خيار المواجهة، والتي كانت تريد أن تقتلع كلّ الحاضر والماضي، وترمي بمنطقتنا وشعوبها إلى المستقبل المجهول والمظلم.
•الداعم للإمام السيّد الخامنئيّ دام ظله
كان سماحة السيّد عاشقاً للإمام الخمينيّ قدس سره، ونظمَ في رثائه أطول قصائده وسمّاها “سنابل المجد”. وعندما انتخبَ مجلس خبراء القيادة في إيران، بعد رحيل الإمام الخمينيّ قدس سره، سماحة الإمام القائد الخامنئيّ دام ظله قائداً ووليّاً لأمر المسلمين، كان سماحة السيّد الراحل من المؤيّدين والدّاعمين بشدّة لهذا الانتخاب المناسب واللائق، سواء عندما كان في إيران أو بعد مجيئه إلى لبنان.
•غوص في مختلف العلوم والمعارف
أمّا الميّزة الرئيسة في شخصيّته، فهي الطابع العلميّ والفكريّ؛ فقد كتب سماحة السيّد وبحث وحقّق ودقّق في مختلف العلوم والمعارف: في الفقه، والأصول، والتفسير، والكلام، والعقائد، والسيرة، والتاريخ، والحكم والإدارة، والحرب، والجهاد، والأخلاق، والتربية، وعلمَي الاجتماع والنّفس، وفي قضايا الاقتصاد الإسلاميّ والسوق… ويمكن القول إنّ سماحته كتب في المجالات جميعها التي فيها للإسلام رأيٌ وموقف.
•مؤلّفات جديدة رغم المرض
لم يتوقّف سماحته عن الكتابة والتأليف والتحقيق الذي كان جهاده، إلّا عندما أعجزه المرض الأخير عن الإمساكِ بالقلم. أمّا طيلة السنوات التي عانى فيها من مرضه العُضال، وعلى الرغم من الظروف الصعبة والمتعبة جسديّاً ونفسيّاً، فإنّه لم يتوقّف عن التحقيق والكتابة، وقد أنجز العديد من الموسوعات الكاملة الجديدة أثناء مرضه، منها سيرة سيِّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين عليهما السلام بما يزيد على 30 مجلّداً.
•التاريخ الإسلاميّ: المجال الأصعب
على الرّغــم من تنــوّع اهتمامــاته ودراســاته العلميّة والتحقيقيّة، إلّا أنّ سمـــاحة السيّــد ذهب إلى مجال التاريخ الإسلاميّ، تحقيقاً وكتابةً وتأليفاً موسوعيّاً، وهو برأيي المجال الأصعب، والأخطر، والأكثر حساسيّة من بعض الزوايا والجهات؛ لأسباب عدّة:
أ- الفاصل الزمنيّ الطويل: عندما نريد أن نصل إلى الوقائع والأحداث التاريخيّة في التاريخ الإسلاميّ، ثمّة صعوبات جمّة وكبيرة تواجهنا لسبب جوهريّ؛ وهو الذي يُصعّب إمكانيّة المعرفة الدقيقة والصحيحة، ولكنّه لا يَمنعها، وهو الفاصل الزمنيّ الطويل، إذ إنّنا نبحث عن تاريخ ووقائع وأحداث حصلت قبل أكثر من ألف عام، خصوصاً أنّ المرحلة الزمنيّة التي تصدّى لها سماحة السيّد هي المتعلّقة بالقرون الأولى من تاريخ الإسلام. والأمر نفسه يسري على الأحداث والتطوّرات الحاليّة، والتي نملك أدوات ووسائل الاطّلاع والإحاطة المعلوماتيّة كلّها حولها، فإنّنا نجد تبايناً في نقلها.
ب- قلّة المصادر التاريخيّة: عندما نَتصفّح كتب التاريخ الإسلاميّ، نجد أحياناً أنّها نسخة طبق الأصل، مع بعض التعديلات، أو الإضافات الزمنيّة، التي لم تكن في زمان الكاتب أو المؤلّف الأوّل. وإنّ عدم التنوّع في المصادر وتعدّدها، وعدم وجود مؤرّخين من الاتّجاهات الفكريّة والدينيّة والثقافيّة والسياسيّة في التاريخ الإسلاميّ يُشكّل عقبةً أيضاً.
ج- قلّة الأسانيد: إنّ أبحاث الفقه، والأحكام الشرعيّة، وبعض قضايا الفكر الإسلاميّ، لها أسانيدها القويّة، وهي القرآن الكريم، والروايات الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن أهل البيت عليهم السلام وعن صحابة النبيّ (رضوان الله عليهم). أمّا في قضايا التاريخ، فليس لدينا أسانيد إلّا القليل، وهذا الأمر خطير جدّاً؛ لأنّه يجب أن نعرف أن الذي يَنقل هذه الكلمة أو هذا الحادث أو هذه التفاصيل عن المعركة هل هو ثقة؟ وهل هو صادق أم أنّه يتحدّث من موقع مختلف؟
•الحاجة إلى الدقّة والجهد
إنّ ما تقدّم كلّه، يجعلنا ندرك أنّ قراءة التاريخ واكتشاف حقائقه ليسا أمراً سهلاً، ولا يجوز الاستعجال في إطلاق الأحكام حولهما، بل يحتاجان إلى كثير من الجهد والتحقيق والتدقيق، وتَتبّع المصادر والكتب والمقولات كلّها حتّى يصل الإنسان إلى نتيجة.
•قواعد ومناهج محدّدة
لقد دخل سماحة السيّد رحمه الله في هذا المجال الصعب، ووضع لنفسه منهاجاً محدّداً وقواعد معيّنة لدراسة التاريخ ووقائعه، وأمضى القسم الأكبر من عمره في هذا المحيط المتلاطم، وكتبَ الموسوعات وخلص إلى نتائج، قد يوافقه علماء آخرون عليها وقد لا يوافقونه، وهذا أمر طبيعيّ؛ لأنّ موضوع التاريخ، وبسبب بعض الصعوبات التي ذكرناها، يضع العلماء والمحقّقين الصادقين أمام مساحة من الاختلاف والاجتهاد وتباين الرأي.
•إنجازٌ غير مسبوق
إنّ ما أنجزه سماحة السيّد من تأليفات موسوعيّة في مجال التاريخ الإسلاميّ والسيرة، وخصوصاً ما يرتبط برسول الله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام، هو جُهدٌ نادر غير مسبوق في التاريخ الإسلاميّ، وخصوصاً فيما يتعلّق بجهود وعطاءات العلماء المسلمين الشيعة في الحدّ الأدنى، فلا نظير له في تاريخ علمائنا ومحقّقينا طوال التاريخ. الأمل يبقى بأن يأتي من يُكمل هذا العمل الموسوعيّ الاستثنائيّ حول بقيّة أئمّتنا عليهم السلام.
أسأل الله تعالى لسيّدنا العزيز والكبير الراحل الرحمة والرضوان وعلوّ الدرجات في جوار آبائه وأجداده الطاهرين.
(*) من كلمة سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) في الاحتفال التأبينيّ بمناسبة مرور أسبوع على رحيل العلّامة المحقّق آية الله السيّد جعفر مرتضى العامليّ (رحمه اللّه) بتاريخ 1/11/2019م.