الشهيد السيّد عبد الحسين دستغيب قدس سره
نُقل عن أحد الأعاظم أنّ أحد المؤمنين كان السبب في يقظته من نوم الغفلة ودفعه نحو تحصيل المعرفة والعبوديّة، فقد رأى ذات يوم في سوق النخّاسين عبداً وأراد أن يشتريه، فاقترب منه وقال: ما اسمك؟ قال: أيّ شيء تناديني به.
– أشتريك؟
– إذا أردت.
– ماذا تأكل؟
– أيّ شيء تطعمنيه.
– وماذا تلبس؟
– أيّ شيء تُلبسنيه.
– وما هي مواصفات سكنك؟
– حيث تسكنني.
– وما هذه الإجابات أيّها العبد؟
– وهل تنفع العبد الأماني؟
وكأنّما كان ذلك الشخص نائماً وانتبه، فلطم على رأسه قائلاً: يا ليتني تعاملت في كلّ عمري يوماً واحداً مع مولاي الحقيقيّ هكذا.
* شرح الصدر للهداية
أشار القرآن المجيد إلى نور اليقين هذا في مواضع عدّة:
1. ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ (الزمر: 22).
2. ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ﴾ (الأنعام: 122).
3. ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنعام: 125).
لمّا نزلت هذه الآية سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن شرح الصدر ما هو، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح صدره وينفسح، قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: نعم، الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت”(1).
* الهداية في فطرة كلّ إنسان
الهداية العامّة هي تلك التي أودعها الله تعالى في فطرة الإنسان وكيانه، وأوضحها أكثر وأتمّ حجّته على جميع الخلق بإرسال الأنبياء والكتب السماويّة.
بعبارة ثانية؛ جعل سبحانه جميع الاعتقادات الصحيحة وتمييز الأعمال السليمة والميل إليها أمراً فطريّاً للإنسان، ثمّ أرسل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والكتاب لشرح تلك الفطريّات وبيانها. وتشير إلى هذه المرتبة من الهداية الآية الشريفة: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ (الدهر: 3).
وكذلك قوله تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ (البلد: 10).
هذا النوع من الهداية يتساوى فيه جميع البشر، وحجّة الله على جميع الخلق تامّة، ولا عذر لأولئك الذين لم يسيروا ويصلوا إلى النجاة والسعادة إلّا أولئك الذين يعانون نقصاً عقليّاً أو لم يصل إليهم أبداً ما بيّنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن الكريم. هذان القسمان معذوران، ولأنّ حجّة الله عليهما ليست تامّة، فهما لا يعذّبان، ويعاملهما الله برحمته الواسعة، ويوصف كلّ منهما بأنّه “جاهل قاصر”، فيما يوصف كلّ من أولئك الذين رفضوا الهداية بأنّه “جاهل مقصّر”.
بعد هذه المقدّمة، يُعلم أنّ الآيات التي ورد فيها أنّ الله تعالى لا يهدي الكافرين، والفاسقين، والظالمين، يُراد بها الهداية الخاصّة.
* متى تحصل الهداية الخاصّة؟
حينما يقبل العبد الهداية الأولى ويؤمن، يشمله الله بألطافه ويؤيّده بتوفيقه ويحفظه من وسوسات إبليس، إلى أن يصل إلى حيث ينير قلبه بنور اليقين ويمنحه شرح الصدر.
وفي المقابل، إذا لم يقبل العبد الهداية الأولى بل أنكرها، يكله الله إلى نفسه جزاءً لأعماله ولا يهبه التوفيق، ويختم على قلبه ويتركه في ظلمات الجهل والغفلة حتّى يصل إلى مرحلة لا يرى فيها الحقّ أصلاً ولا يبحث عنه ويصبح قلبه مركز وسوسة الشيطان. هذا معنى إضلال الله وهدايته. يقول تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾، أي قبلوا الهداية الأولى، ﴿بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾، أي العقائد الصحيحة، ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ﴾ الذين لم يقبلوا الهداية الأولى. ﴿وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء﴾ (إبراهيم: 27)، ويقول تعالى أيضاً: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾ (محمّد:17).
* جزاء القبول والإنكار
بعد التأمّل في هذه الآيات ونظائرها، يتّضح جيّداً أنّ زيادة الإيمان ونور اليقين وشرح الصدر وسائر التوفيقات والألطاف المعنويّة، وباختصار: “الهداية الإلهيّة الخاصّة”، تأتي في مرتبة بعد الهداية الأولى التي هي عامّة، وأنّ كلّ إيجابيّات الهداية الخاصّة هي جزاء للإيمان والتسليم في مقابل الحقّ. كما أنّ ما يقابلها، وهو ضيق الصدر وظلمة القلب وعمى الباطن والاضطراب الداخليّ والوساوس الشيطانيّة، وباختصار: “الإضلال الإلهيّ”، كلّ ذلك يأتي بعد إنكار الحقّ وعدم قبوله، وهو جزاء له كما يقول الحقّ سبحانه: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾ (البقرة: 26)، ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ﴾ (غافر: 74)، ﴿وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ﴾ (إبراهيم:27).
هذه الآيات الشريفة وغيرها صريحة في أنّ الهداية الخاصّة والإضلال الإلهيّ (الترك) ليسا جزافاً وبلا مبرّر. وما لم توجد القابليّة وطلب الهداية بإخلاص فلن تتحقّق؛ أي أنّ العبد إذا قبل مرتبة من مراتب الهداية الأولى التي أُعطيت للجميع، يصبح جاهزاً لمرتبة من مراتب الهداية الثانية (الخاصّة).
* الطريق إلى الهداية الخاصّة
إذا حصل الالتزام والعمل بما تقدّم حول مرض الشكّ من التخلية والتحلية والفكر والذكر، تصبح جاهزيّة الإنسان واستعداده كاملَين لتلقّي إفاضة أعلى مراتب الهداية الخاصّة، وهي عطاء نور اليقين ومراتبه. والخلاصة: كلّ شيء يهتمّ العبد به ويحصل على الاستعداد له ويصبح هو مطلبه الحقيقيّ، فإنّه يُعطى له؛ إذا كان مطلبه هو درجات الهداية يرتفع، وإن كان ما يطلبه دركات الإضلال يهوي: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ (الإسراء: 20).
* ما يجب اليقين به
من الواجب أن يكون اليقين صادقاً وتامّاً بحيث يسطع نوره في جميع أنحاء القلب وتتجلّى فيه آثاره. والآن، يجب أن نعرف ما هي الأمور التي يجب اليقين بها، وعليه نقول: كلّ الأمور الاعتقاديّة التي أُمر في القرآن المجيد والسنّة القطعيّة بالعلم واليقين فيها، يجب تحصيل اليقين فيها.
*مقتبس من كتاب: القلب السليم، ج 1، ص 269- 272.
1- تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج 4، ص 158.