بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة .. ما معنى (بسَر) في قوله تعالى من سورة المدثر: ﴿ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ﴾ (1)؟
الجواب ..
سياق الآية وسبب النزول ..
الآيةُ المباركة واقعةٌ في سياق آياتٍ قيل إنَّها نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي أحد أعيان قريش، وقد ورد أنَّ سبب نزول الآيات هو أنَّه استُشير في أمر النبيِّ (ص) أو أنَّه اجتمع بأعيان قريش وحثَّهم على اتخاذ موقفٍ موحَّد تجاه النبيِّ (ص) وأنَّه لا يصلح الاختلاف في توصيفه لأنَّ العرب لن تقبل منهم ذلك “فقالوا: نقول إنَّه شاعر. فعبس عندها وقال: قد سمعنا الشعر فما يُشبه قوله الشعر. فقالوا: نقول إنَّه كاهن. قال: إذا تأتونه فلا تجدونه يحدث بما تحدث به الكهنة. قالوا: نقول إنَّه لمجنون. فقال: إذا تأتونه فلا تجدونه مجنونا. قالوا: نقول: إنَّه ساحر. قال: وما الساحر؟ فقالوا: بشر يحببون بين المتباغضين، ويبغضون بين المتحابين. قال: فهو ساحر، فخرجوا. فكان لا يلقى أحد منهم النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا قال: يا ساحر، يا ساحر. واشتدَّ عليه ذلك ..”(2).
قال: ويروى أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أنزل عليه: ﴿حم / تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ / غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾ (3) قام إلى المسجد، والوليد بن المغيرة قريبٌ منه يسمع قراءته. فلما فطن النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لاستماعه لقراءته، أعاد قراءة الآية. فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال: والله لقد سمعتُ من محمد آنفا كلاما، ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وإنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعلاه لمُثرٍ، وإنَّ أسفله لمغدِق، وإنَّه ليعلو وما يُعلى. ثم انصرف إلى منزله. فقال قريش: صبأ والله الوليد، والله لتصبأن قريش كلهم. وكان يقال للوليد. ريحانة قريش. فقال لهم أبو جهل: أنا أكفيكموه، فانطلق فقعد إلى جانب الوليد حزينا، فقال لي. ما لي أراك حزينا يا ابن أخي؟ قال: هذه قريش يعيبونك على كبر سنك، ويزعمون أنك زينت كلام محمد! فقام مع أبي جهل، حتى أتى مجلس قومه فقال. أتزعمون أن محمدا مجنون، فهل رأيتموه يخنق قط؟ فقالوا: اللهم لا. قال: أتزعمون أنه كاهن، فهل رأيتم عليه شيئا من ذلك؟ قالوا: اللهم لا. قال: أتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه أنه ينطق بشعر قط؟ قالوا: اللهم لا. قال: أتزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟ فقالوا: اللهم لا، وكان يسمى الصادق الأمين قبل النبوة من صدقه. فقالت قريش للوليد. فما هو؟ فتفكر في نفسه، ثم نظر وعبس، فقال ما هو إلا ساحر، ما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله، وولده ومواليه، فهو ساحر، وما يقوله سحر يؤثر”(4).
وفي رواية علي بن إبراهيم القمِّي أنَّه: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقعد في الحجرة ويقرأ القرآن فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة -وكان شيخا كبيرا مجربا من دهاة العرب، وكان من المستهزئين برسول الله (صلى الله عليه وآله)- فقالوا: يا أبا عبد الشمس ما هذا الذي يقول محمد أشعرٌ هو أم كهانة أم خُطَب؟! فقال دعوني أسمع كلامه، فدنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد أنشدني من شعرك، قال: ما هو شعر ولكنَّه كلام الله الذي ارتضاه لملائكته وأنبيائه، فقال: أتلُ عليَّ منه شيئاً، فقرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) حم السجدة فلما بلغ قوله: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾(5) قال: فاقشعرَّ الوليد وقامت كلُّ شعرةٍ في رأسه ولحيته ومرَّ إلى بيته ولم يرجع إلى قريش من ذلك، فمشوا إلى أبي جهل فقالوا: يا أبا الحكم ان أبا عبد الشمس صبا إلى دين محمد أما تراه لم يرجع الينا، فغدا أبو جهل فقال له: يا عم نكست رؤوسنا وفضحتنا وأشمت بنا عدونا وصبوت إلى دين محمد، فقال ما صبوت إلى دينه ولكني سمعت منه كلاما صعبا تقشعر منه الجلود، فقال له أبو جهل: أخطب هو؟ قال: لا إنَّ الخُطَب كلامٌ متَّصل، وهذا كلام منثور، ولا يشبه بعضه بعضا، قال أفشعرٌ هو قال: لا، أما إنِّي قد سمعتُ أشعار العرب بسيطها ومديدَها ورملَها ورجزَها، وما هو بشعر، قال فما هو؟ قال: دعني أفكِّر فيه فلمَّا كان من الغد قالوا: يا أبا عبد شمس ما تقول فيما قلناه؟ قال: قولوا هو سحر فإنَّه أخذ بقلوب الناس، فأنزل الله على رسوله في ذلك ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ..﴾ (6).
المعاني المذكورة لكلمة بسَر ..
وأمَّا المراد من (بسَر) في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ﴾ فذُكر لذلك أكثر من معنى:
المعنى الأول: هو أنَّ (بسرَ) من البُسور وهو العبوس وتقطيب الوجه المقابل للبُشر وطلاقة الوجه، ويُؤيد ذلك ما قيل في تفسير قوله تعالى: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ﴾(7) أي أنَّ وجوه الكفار -حين مشاهدتهم لجهنَّم- عابسة.
وبناءً على ذلك تكون كلٌ من كلمتي عبسَ وبسَر قد استعملته الآية من سورة المدثر في معنى واحد، فيكون عطف إحداهما على الأخرى من عطف المرادِف على مرادِفه وذلك لغرض التوكيد.
المعنى الثاني: أنَّ البُسور بمعنى النظر المعبِّر عن الكراهة الشديدة، فقد يعبسُ الإنسان ويقطِّب وجهه دون أنَّ يُحدَّ نظره في شيء، وقد يعبسُ ويُعرض بوجهه، فهو عُبوسٌ محض، وقد يقترن عبوس العابس بالنظر الحاد -المعبِّر عن الكراهة- إلى وجه جليسه فهو حينذاك يكون قد عبسَ وبسر في وجه جليسه. أو أنَّه عبس وقطَّب وجهه وأحدَّ نظره في وجه جليسه كهيئة المتفكِّر، فهو بذلك يكون قد عبس وبسَر أي نظر لجلسيه شزراً كأنَّه يفكِّر في أمرٍ.
المعنى الثالث: أنَّ البسور وصفٌ لوجه العابس إذا اربدَّ وغلُظ وتغيَّر لونه، يُقال وجهٌ باسر بيِّن البسور إذا تغير واسودَّ، فالبسور مرتبةٌ شديدة العبوس، فقد يعبسُ الرجل فيقطِّب وجهه، وقد يبلغُ عبوسه حدَّاً يتغير معه لونُ جهه فيربدُّ ويكلحُ ويغلظُ من شدَّة الغضبِ أو الحزنِ أو الحيرةِ أو الخوفِ، وهذا هو البُسور، وهو -كما قيل- المراد من قوله تعالى: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ﴾ أي شديدة العبوس لشدَّة الخوف والترقُّب.
وبناءً على ذلك يكون المراد من العطف هو الترقِّي، فيكون مؤدَّى الآية أنَّه عبس بل إنَّه قد بسَر، والغرض من ذلك هو التوكيد على شدَّة العبوس كما يقال رجل أستغنى وأملى أي أنَّه صار غنيَّاً بل صار مليَّاً كثير المال.
المعنى الرابع: أنَّ بسَر بمعنى “وقف لا يتقدَّم ولا يتأخَّر”، قالوا: وكذلك يقول أهل اليمن إذا وقف المركب، فلم يجئ ولم يذهب: قد بسر المركب”(8) فمعنى الآية بناءً على ذلك أنَّه عبسَ بوجهه وتسمَّر في مكانه لا يتقدَّم ولا يتأخَّر لحيرةٍ قد أصابته أو أنَّه عبس وظلَّ واقفاً يفكِّر فيما يقول أو يقعل، فهي تصف حال الوليد بن المغيرة حين استُشير فيما هو المناسب لوصف النبيِّ (ص) أو فيما هو الوصف المناسب لتنفير الناس من النبيِّ الكريم (ص).
وهذا المعنى لا يبتعدُ كثيراً عن المعنى الثاني، فإنَّ حدَّة النظر حال العبوس لغرض التفكُّر يلازمه عادة التوقف والتسمُّر في المكان، وكذلك فإنَّ الغيظ وتزاحم الخواطر المزعجة والمقلقة تلازم عادة تغيُّر الوجه وتربُّده، وهي مرتبة شديدة من العبوس، وعليه فلعلَّ المعاني مجتمعةً هي حالة الوليد التي كانت الآية بصدد توصيفها.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
1- سورة المدثر / 22.
2- تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج10 / ص178.
3- سورة غافر / 1-3.
4- تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج10 / ص179.
5- سورة فصلت / 13.
6- تفسير القمي -علي بن إبراهيم القمي- ج2 / ص394.
7- سورة القيامة / 24.
8- تفسير البحر المحيط -أبو حيان الأندلسي- ج8 / ص361.