إن العدل سبَبٌ للقوة والرفاه والعيش الرغيد، وثبات السلطان والحكم، وطول مُدَّة الدولة، كذلك الجَورُ سبَبٌ لقصر مُدَّتها، وضعفها، ودمارها وذهابها.
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “مَنْ جارَ قُصِمَ عُمْرُهُ”.
معادلة أخرى يذكرها لنا الإمام أمير المؤمنين (ع) وهي كغيرها من المعادلات تشهد لها التجربة البشرية الممتدة منذ أبيها آدم (ع) إلى يومنا هذا، وهي ثابتة مطَّردة ما دام في الحياة جور وظلم وعدوان.
المعادلة واضحة: مَن جار وعدل عن الحق إلى الباطل، وعن الاعتراف بالحق إلى ظلم صاحب الحق، ولم يُعطِ لكل ذي حقٍّ حقَّه، وتجاوز الحدود التي قرَّرها العقل وأمضاها الشرع فإنه سيُقصَم عمره، أي سيكون جوره سبباً لنزول العقاب به في الدنيا قبل الآخرة، وسبباً لهلاكه وذهابه واضمحلاله.
وكما أن العدل سبَبٌ للقوة والرفاه والعيش الرغيد، وثبات السلطان والحكم، وطول مُدَّة الدولة، كذلك الجَورُ سبَبٌ لقصر مُدَّتها، وضعفها، ودمارها وذهابها. فبقاء الدول رهن عدلها، ودمار الدول رهن جَورها وظلمها، ووالله ما أهلك الأمم الغابرة ولا يهلك الأمم الحاضرة إلا الظلم والجور والعدوان.
إن الظلم والجور هو ذاته عقوبة للظالم الجائر، ظاهر الظلم والجور يختلف عن باطنهما، ظاهرهما قد يحسبه الشخص قوَّة وربحاً وفوزاً وانتصاراً، لكن باطنهما الهلاك والدمار، عندما يستقوي الظالم بالظلم والجور على الضعيف المظلوم قد ينتفش ويتوهَّم أنه قَدِرَ عليه، لكنه في واقع الحال يجلب إليه كل أسباب الهلاك والدَّمار.
يكفينا قارئي الكريم أن نقف على مصائر الأمم الغابرة ونحلِّل أسباب دمارها واندثارها لنرى الظلم هو العامل الأوحد لذلك، وأن الله سبحانه حين ذكر لنا مصائر أُمَمٍ وجماعات في القرآن كان مراده أن يُنَبِّهنا إلى وخامة الظلم وسوء عاقبته، وأنه يؤدي بنا إلى الزوال، قال سبحانه: “وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴿13/ يونس﴾.
فالآية الكريمة تؤكد أن الظلم كان العامل الأساس لهلاك الأمم السالفة المُعَبَّر عنها قرآنيا (بالقرون)، وتؤكد الآية كذلك أن إهلاكهم كان بعد إتمام الحُجَّة عليهم، وتبيين الحق لهم، وهدايتهم، وإعطائهم الفرصة لمراجعة الذّات والعودة عن الظلم إلى رحابة العدل، لكنهم كانوا يُصرِّون على تَعَنُّتهم وإجرامهم فكانوا بذلك عُرضة للهلاك والزوال.
رُبَّ قائل يقول: ما بالنا نرى الدول الطاغية الجائرة قوية، مقتدرة، لا يقوى أحد عليها، ما بالنا نرى كياناً مُجرِماً قاتلاً في منطقتنا، يقتل بلا هَوادة، ويُدَمِّر بلا رادع، تُؤَيِّده دول كثيرة، وتسكت عنه دول يفترض بها ألا تسكت، وتدعمه معظم القوى الإقليمية بالمال والاعلام، ناهيك عن الدعم العسكري والسياسي اللامتناهي من شيطان العالم، ما بالنا نراه يصول ويجول ويعربد في المنطقة كلها رغم طغيانه وظلمه وجَوره؟
والجواب: صحيح ما تقدم، والصحيح أيضاً ما جاء في قوله تعالى: “وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ﴿59/ الكهف﴾. فالآية تؤكد أن حدوث الظلم يؤدي إلى الهلاك حتماً، لكن الهلاك له موعد، له أجَلٌ، فلا بد من أن تتكامل الأسباب والظروف المناسبة، لأن عقوبة الظالمين لا تكون عقاباً يرجعون من بعده إلى ظلمهم، الظلم عقوبته الهلاك والدمار، أي أن الأمة الظالمة يجب أن تهلك وتنتهي إلى غير رجعة، وهذا يتطلَّب الوقت الضروري لأمرين اثنين:
الأول: أن تُظهر الأمة الظالمة كل ما لديها من ظلم وعُتُوٍّ وصَلَف وتَجبُّرٍ وطُغيان وجَور ووحشية، وأن تكشف عن كل مكنونها من خُبثٍ وسوء، كي يكون هلاكها قاصماً مدوِّياً، فكلما أمعنوا في الجور والظلم والعُلُوِّ كان سقوطهم مُريعاً قاتلاً، ولذلك يمهلهم الله ولكنه لا يهملهم.
الثاني: أن يعذِّبهم بظلمهم وجورهم قبل إهلاكهم، وذلك بسلبهم الأمن والطمأنينة وصلاح البال، وأن يوقع بأسهم بينهم نتيجة ذلك.
وهذا بالضبط ما يحدث اليوم في الكيان المُجرم القاتل الجائر الظالم فهو رغم ما يتمتع به من قوة، ورغم ما يمارسه من بطش لكنه لم يحصل على الأمان الذي ينشده منذ سبعين عاماً ولن يحصل عليه، وقد اقترب موعده إن شاء الله تعالى.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي