يحثّ القرآن الكريم على صحبة أهل الخير وذوي الأخلاق الرفيعة، ويحذر من مرافقة من ليس لديهم تقوى أو أخلاق.
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “لُزُومُ الْكَريمِ عَلى الْهَوانِ، خَيرٌ مِنْ صُحْبَةِ اللَّئيمِ عَلى الإِحْسانِ”
لَمّا كان الإنسان كائناً اجتماعياً بطبعه، فإنه يميل إلى بناء علاقات اجتماعية، وشراكات زوجية، وعملية، يجدها ضررورية له لأنها تلبي له حاجات كثيرة، وصحيح أن المرء بالطبع يميل إلى من يشاكله، ولكن الصحيح أيضاً أنه محتاج إلى مصاحبة من يعينه على الارتقاء الأخلاقي والسلوكي، لأن المَرء يتأثَّر كثيراً بأخلاق الصاحب والصديق.
ولذلك تجد الآباء الذين يريدون لأبنائهم أن يكبروا على الاستقامة والسلوك السَّوِي، يحرصون على اختيار أصدقائهم، أو يرشدوهم إليهم، ويحذروهم من صحبة الأشرار والفجَّار، وكل الذين لديهم سلوكيات منحرفة.
والإمام أمير المؤمنين (ع) يدعو في جوهرته الكريمة إلى مصاحبة كرام الناس، وهم الأسخياء، الطَّيِّبون، الصالحون، من أهل النُّبل، والشهامة، والنَّخوَة، والنَّجدة، والغيرة، فهؤلاء يحسُنُ بالمَرء أن يُصاحبهم، حتى لو عانى معهم شيئاً من الهَوان أو المَتاعب، لأنه مع هؤلاء يحصل على المعاملة الحسنة والأخلاق الرفيعة، فيهنأ بصحبته معهم، ويترَّقى برُقِيِّهم.
ويحذِّر من مصاحبة لِئام الناس، الذين يتعاملون مع الناس حسب مصالحهم الشخصية، ويُعرَفون بانعدام الوفاء والمُروءة منهم، فإنَّ الإحسان الظاهر الذي قد يُقدَّمه اللئام لا يساوي شيئاً إذا كان فيه مَكر أو تذلُّل، لأن اللِّئام ليسوا أهلا للثقة.
الإنسان في سَعيه لاختيار من يصاحبه يجب أن يضع القيمة الأخلاقية والصفات الحَميدة فوق الراحة أو المصلحة المادية، فعندما يُرافق الإنسانَ الكريمَ، قد يضطرُّ إلى تَحَمُّل بعض التَّحدِّيات أو التضحيات، لكنه بذلك يبني علاقةً قائمةً على الاحترام والمَودة، بينما صحبة اللئيم قد تَعِدُه ببعض المنافع الظاهرة، لكنها تتضمَّن في طياتها خيانة محتملة ومصالح شخصية تجعلها صحبة غير آمنة.
في قصة نبي الله موسى (ع) مع العبد الصالح الذي آتاه الله من لَدُنهُ عِلماً، والتي وردت في سورة الكهف المباركة، نرى أن موسى اختار صحبته، على الرغم من التَّحَدِّيات التي واجهها في الفَهم والصبر، لأن العبد الصالح كان رجلاً صالحاً ذا علم، وقدأطلَعَ موسى على الحكمة من أفعاله التي لم يفهمها بدايةً، وهذا مثال على لزوم صحبة الكريم والصالح حتى وإن كانت تتطلب مشقة.
يحثّ القرآن الكريم على صحبة أهل الخير وذوي الأخلاق الرفيعة، ويحذر من مرافقة من ليس لديهم تقوى أو أخلاق، قال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴿28/ الكهف﴾ يروى أنَّ هذه الآية الكريمة نزلت في أشراف قريش، حين طلبوا إلى الرسول (ص) أن يطرد فقراء المؤمنين إذا كان يطمع في إيمان رؤوس قريش، أو أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس هؤلاء النفر، لأن عليهم جِباباً تفوح منها رائحة العَرَق، فتؤذي السّادة من كُبَراء قريش، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ الآية الكريمة، أنزلها تعلن عن القيم الحقيقية، وتقيم الميزان الذي لا يخطئ، وبعد ذلك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فالإسلام لا يتَمَلُّق أحداً ولا يَتزَلَّف لأحد.
لذلك خاطب الله رسولله الكريم، -والآية جارية على قاعدة: إياكِ أعني واسمعي يا جارة- قائلاً له: اصبر نفسك مع هؤلاء، صاحبهم وجالِسهم وعَلِّمهم، ففيهم الخير، وعلى مثلهم تقوم الدعوات، فالدعوات لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالبة، ومن يعتنقونها ليحققوا بها الأطماع، إنما تقوم الدعوات بهذه القلوب التي تتجه إلى الله خالصة له، لا تبغي جاها ولا مَتاعاً ولا انتفاعاً، إنما تبتغي وجهه وترجو رضاه.
ولا يتحول اهتمامك عنهم إلى مظاهر الحياة التي يستمتع بها أصحاب الزينة، فهذه زينة الحياة الدنيا لا ترتفع إلى ذلك الأفق العالي الذي يتطلَّع إليه من يَدْعون ربهم بالغداة والعَشِيِّ يريدون وجهه، ولا تُطِع الغافلين المستكبرين فيما يطلبون من تمييز بينهم وبين الفقراء.
إن قوله (ع) “لُزُومُ الْكَريمِ عَلى الْهَوانِ خَيرٌ مِنْ صُحْبَةِ اللَّئيمِ عَلى الإحْسانِ” يُلَخِّص لنا أهمية اختيار الصديق والصاحب، الكرم والأخلاق الحميدة هما أساس العلاقة الجيدة، وهما أفضل بكثير من صحبة شخص قد يُظهِر الإحسان، لكنه يُبطِن اللؤم.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي