كيف كانت حياتها الأسرية؟ كانت إلى ما قبل الزّواج، عندما كانت ما زالت فتاة، كانت تعامل أباها، الذي كان بهذه العظمة، بحيث راحت تُكنّى بـ “أمّ أبيها”[1]، في الوقت الذي كان نبيّ الرّحمة والنّور، ومؤسّس الحضارة الحديثة، والقائد العظيم للثّورة الخالدة، يرفع راية الإسلام. ولم تُكنَّ بـ “أمَ أبيها” اعتباطًا، فقد كانت الزّهراء إلى جانب أبيها، تزيل بيديها الصّغيرتين غبار الحزن والغمّ عن وجهه صلى الله عليه وآله وسلم، سواء أفي مكّة، أم في شُعب أبي طالب، مع كلّ شدائدهما، أم عندما بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحيدًا مكسور القلب بوقوع حادثتين في فترة قصيرة، هما وفاة خديجة عليها السلام ووفاة أبي طالب عليه السلام، حيث أحسّ النبيّ بالغربة. هذا هو منشأ كنيتها بـ “أمّ أبيها”.
وبيان ذلك أنّه كانت السيّدة الزّهراء عليها السلام في سنّ السادسة أو السّابعة، حيث يوجد روايات مختلفة بشأن تاريخ ولادتها، عندما حدثت مسألة شُعب أبي طالب. لقد شكّلت شعب أبي طالب مرحلة صعبة جدًّا في تاريخ صدر الإسلام؛ أي أنّ دعوة النبيّ كانت قد بدأت وصارت علانيّةً، وبالتدريج بدأ أهل مكّة، وخصوصًا الشباب، وبالأخص العبيد، يقبلون ويؤمنون به، ورأى صناديد قريش، كأبي لهب وأبي جهل وغيرهما، أنّه لا بدّ من إخراج النبيّ وكلّ من كان معه من مكّة، وهذا ما فعلوه، فأخرجوا عددًا كبيرًا منهم، وقد بلغوا عشرات الأُسر، بما في ذلك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأسرته وأبو طالب نفسه، مع أنّ أبا طالب كان يُعدّ من الوجهاء الكبار. فخرجوا من مكّة، ولكن إلى أين يذهبون؟ صادف أنْ كان لأبي طالب مُلكٌ في بقعة قريبة من مكّة ــ لعلّها كانت تبعد عدّة كيلومترات، وكانت في شعاب جبلٍ يُدعى شُعب أبي طالب، فقال لهم أبو طالب: فلنذهب إلى هذه الشّعب، فكِّروا في هذا الأمر! كانت الأنْهُر أو النُّهُر في مكّة شديدة الحرارة، والليالي في غاية البرودة؛ أي إنّ الوضع لم يكن قابلًا للتحمّل. لقد عاشوا في هذه الشّعب مدّة ثلاث سنوات. فكم تحمّلوا من جوعٍ وصعابٍ ومحنٍ، الله وحده يعلم. فأحد المراحل الصّعبة في حياة النبيّ كانت هناك. ولم تكن مسؤولية النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المرحلة منحصرة في القيادة بمعنى إدارة مجموعة، بل كان عليه أن يتمكّن من الدفاع عن عمله أمام هؤلاء الّذين كانوا واقعين في المحنة.
ومن المعلوم أنّه عندما تكون الأوضاع جيّدة، فإنّ الذين يكونون مجتمعين حول القيادة، يكونون جميعهم راضين عن الأوضاع، ويقولون: رحم الله أباه، فقد أوصلنا إلى هذا الوضع الجيّد.
ولكن عندما تسوء الأحوال، فإنّ الجميع يُصابون بالحيرة والتردّد، ويقولون: إنّه هو الّذي أوصلنا إلى هذا الوضع السيّئ! ولم نكن نريد أن نصل إلى مثل هذا الوضع! وبالطبع، فإنّ أصحاب الإيمان القويّ يصمدون، ولكن في النّهاية إنّ كلّ الصّعاب كانت تنهال على الرّسول.
وفي هذه الأثناء، وعندما كان النبيّ يُقاسي أشدّ أنواع المحنة، توفّي كلٌّ من أبي طالب، الّذي كان الدّاعم للنبيّ وأملَه، والسيّدة خديجة الكبرى، الّتي كانت تُعدّ أكبر عونٍ روحيّ له، خلال أسبوعٍ واحد! فكانت حادثة عجيبة جدًّا؛ أي أنّ النبيّ أصبح بعدها وحيدًا فريدًا.
إنّ مَن يترأس مجموعة معيّنة، يعلم ما معنى مسؤوليّة المجموعة. ففي مثل هذه الظّروف يصبح الإنسان متحيّرًا. انظروا إلى دور فاطمة الزّهراء عليها السلام في مثل هذه الظّروف. عندما يتأمّل الإنسان في التّاريخ، ينبغي أن يجد مثل هذه الموارد في الزّوايا المختلفة. لقد كانت فاطمة الزّهراء عليها السلام كأمًّ ومشاورٍ وممرّضة بالنسبة إلى النبيّ. هناك قيل “فاطمة أمّ أبيها”. إنّ هذا الأمر مربوط بذاك الوقت، أي عندما كان للابنة من العمر ستّ أو سبع سنوات. وبالطبع، في البيئة العربية وفي البيئات الحارّة، تنمو البنات بصورةٍ أسرع من الناحيتين الجسديّة والرّوحيّة، أي بمعدّل فتاة بعمر العاشرة أو الثانية عشرة في أيامنا هذه. وهذا ما يؤدّي إلى الشعور بالمسؤوليّة. ألا يمكن أن يُشكّل ذلك قدوةً لأيّ فتاة، كي تشعر باكرًا بالمسؤوليّة والنشاط تجاه القضايا التي تدور من حولها؟ إنّ هذا الرأسمال العظيم للنشاط الموجود فيها، كانت تنفقه من أجل أن تزيل غبار التكدّر والغمّ عن وجه أبٍ لعلّه قد مرّ على عمره أكثر من 50 سنة، وقد قارب سنّ الهرم.
تاريخ النبي وأهل البيت عليهم السلام، دار المعارف الإسلامية الثقافية
[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج43، ص 19.