إن القرآن يدعونا في العشرات من آياته الكريمة إلى التفكر والتأمُّل في خلق الله والظواهر الطبيعية والتاريخ والاعتبار بها بحیث لايوجد كتاب سماوي ولا كتاب بشري دعا إلى التفكير والتأمُّل كما دعا القرآن.
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “مَنْ تَأَمَّلَ اعْتَبَرَ”.
معادلة أخرى يكشف عنها الإمام أمير المؤمنين (ع)، وهي على إيجازها تلخِّص عمق الفكر الإسلامي في الدعوة إلى التّأمُّل والتَّفَكُّر باعتباره سبيلاً إلى التَّعلُّم والاعتبار، وتوضح أهميتهما في حياة الإنسان ودورهما في بناء الحكمة والوعي لديه.
التأمُّل: يعني التعمق في التفكير، والنظر بتمَعُّن في أمر ما لفهمه واستخلاص الدروس منه، وهو عملية عقلية وروحية تسعى إلى فهم الظواهر والحوادث والأمور التي تحيط بالإنسان، وليس مجرد حالة ذهنية، بل هو ممارسة عملية تثمر الوعي والبصيرة.
والاعتبار: هو الاتِّعاظ والتعَلُّم من التجارب والدروس المستفادة من التأمُّل، ويشمل ذلك التَّبَصُّر في عواقب الأمور، وربط الأسباب بالنتائج.
والاعتبار الناتج عن التأمُّل يساعد الإنسان على تطوير نفسه، والاقتراب من الله، وفهم سنن الحياة. لذا، علينا أن نجعل التأمُّل عادة يومية وأن نسعى لاستخلاص العِبر من كل ما حولنا، فإذا أمعن الإنسان النَّظر في الأحداث التي يمر بها أو التي يراها في الآخرين، يستطيع استنباط الدروس والعبر التي تساعده على تحسين سلوكه واتخاذ قرارات حكيمة.
والقرآن الكريم يدعونا في العشرات من آياته الكريمة إلى التفكر والتأمُّل في خلق الله والظواهر الطبيعية والتاريخ والاعتبار بها، وأقول بضرس قاطع ومن دون مبالغة: إنه لا يوجد كتاب سماوي ولا كتاب بشري دعا إلى التفكير والتأمُّل كما دعا القرآن الكريم، فلا يخلو جزء من أجزائه من هذه الدعوة العظيمة، وحيث لا يمكن لهذه المقالة المختصرة أن تستوعب عرض تلك الآيات، فإني أكتفي بالتالي:
قال تعالى: “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴿190﴾ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴿191/ آل عمران﴾.
في هذه الآية الكريمة يحدثنا الله تعالى عن قراءة أولي الألباب ـ وهم أرباب العقول الصافية اليَقِظَة الواعية ـ للكون، والكون كتابٌ منشور يُقْرأ، وصفحاته لا تفتأ تُقلب، وفي كل صفحة جديد من عالم وقوانين، والكون ينطق بغير لسان، وكل جزء من أجزائه يوحي ويُلهم كل ذي لُبٍّ، وأولوا الألباب يتلقَّون إيحاءات الكون ورسائله وكلها تنطق بعظمة من خلقه وأبدَعه، وتستجيش في الفطرة السليمة إحساساً صادقاً بالحَقِّ المُستقرِّ فيه، وإنهم ليقفون موقف الدهشة من عظمته وعظمة من أبدعه وأظهره للوجود، ينظرون بأبصارهم، ويفتحون بصائرهم لتلقي إيحاءات هذا الخلق العجيب.
إنَّ في السماوات والأرض مشاهد ومشاهد ومشاهد، هذا فيما نراه، وما لا نراه أعظم، ووراء كل ذلك خالق حكيم، وربُ رحيم، يُدبِّره ويُمسِك به، ولا يمكن أن يكون كل ذلك جزافاً ولا باطلاً، من تناوب الليل والنهار، واختلافهما، وانسلاخ أحدهما من الآخر على مدار العام، في ذلك كله آية القدرة والحق، وفي ذلك كله براهين لا يبقى معها شَكٌ في وجود الله وخالقيته ورحمته وتدبيره.
والآية الكريمة تُقرِن بين توجُّه القلب إلى ذكر الله وعبادته، قياماً، وقعوداً، وعلى جُنُوبهم، وبين التَّفَكُّر في خلق الكون، وذلك يعني أن التفَكُّر نفسه عبادة، بل من أجَلِّ مصاديق العبادة، ومن أجَلِّ مصاديق الذِّكر، وذلك يعني أيضاً أن آيات الله في الخلق لا تتَجَلَّى على حقيقتها الموحية المُلهِمَة إلا للقلوب الذاكرة العابدة المُقبلة على الله تعالى، وبهذا نُدرك أهمية التفكر كسبيل أوحد إلى فَهمِ الحقائق العظيمة التي أودعها الله في الكون.
وكان رسول الله (ص) يشجِّع على التأمُّل والاعتبار، ويشير إلى أن التفكر له قيمة عظيمة تعادل العِبادة، لأنه يؤدي إلى وعي أعمق بالله وبالحقائق الكونية، ومن ذلك قوله (ص): “تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيرٌ مِنْ عِبادَةِ سَنَةٍ”.
وتحدَّث الإمام أمير المؤمنين (ع) عن أهمية التَّفَكُر، وذكر البركات الجليلة التي تنتج عنه، فوصف التفكُّر بأنه يفيد الحكمة، ويُنير اللُّبَ، وأنه رُشد، يُجلي العقول، ويُوجِبُ الاعتبار، ويُؤْمِنُ العِثار والزَّلَلَ، ويُنجي من المعاطِب، ويُثمِرُ الاستظهار والسلامة، ويدعو إلى البِرِّ والعَمَلِ به، به تنجلي غياهِبُ الأمور، وبه تقوى البصيرة، وبه تَحسُنُ العاقِبة، وبِهِ يُمَيِّز المَرءُ الباقيَ مِن الفاني، وبه تزيد الحكمة، وبه تكون العِصمة.
وكل ما قصَّه القرآن من قَصَصٍ الهدف منه أن يعتبر القارئ والمتلَقّي، لأن الاعتبار يجعل الإنسان يتجنب الأخطاء التي وقع فيها الآخرون. قال تعالى: “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ”﴿111/ يوسف﴾.
والاعتبار من أهمِّ وسائل التقرُّب إلى الله تعالى، لأنه يساعد الإنسان على إدراك حقائق الحياة والغاية من وجوده، مِمّا يعزِّز علاقته بالله، كما أنه يجعل الإنسان أكثر حكمة ووعياً، ويعزِّز من قدرته على اتخاذ قرارات صائبة.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي