على جانبي الطريق المزدحم بالعائدين إلى بلداتهم من أماكن النزوح إلى الجنوب، كان المرحّبين كثر، ينتشرون في محطات عديدة، بعضهم يودعهم بالورد، وآخرون يوزعون الحلوى احتفالًا بالنصر، وغيرهم يمدّهم بالرايات لتكون علامات البشائر.
مع بزوغ فجر الأربعاء الماضي، انطلق الجنوبيون عائدين إلى قراهم بعد أن باعدهم العدوان الإسرائيلي عن أرضهم، منهم منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وآخرون منذ 23 أيلول/سبتمبر الماضي. عادوا لتشرق بهم الأرض مجددًا ولتُوثّقُ بعودتهم أولى شارات النصر. أظهر الجنوبيون في عودتهم سخاء في الفرح تارة، وفي الدموع تارة أخرى.
أولى المظاهر المشتركة بين الجنوبيين في سياق رحلة العودة، كان السهر طوال الليل. لم يغمض لهم جفن، بانتظار أن تصل عقارب الساعة للرابعة فجرًا. وضّب محمد أغراضه فور الإعلان عن وقف إطلاق النار، ودعا عائلته وأقاربه إلى توضيب أمتعتهم، على أن ينطلق موكب سياراتهم في تمام الساعة الرابعة فجراً من عكار نحو قريته الناقورة جنوبي لبنان. وبرغم إدراكهم بإمكانية أن تكون الطرقات مقفلة نحو القرية لدواعٍ أمنية، إلا أنهم أصرّوا على الانتظار ولو في الشارع، “المهم نوصل عالضيعة”.
على جانبي الطريق المزدحم بالعائدين إلى بلداتهم من أماكن النزوح إلى الجنوب، كان المرحّبين كثر، ينتشرون في محطات عديدة، بعضهم يودعهم بالورد، وآخرون يوزعون الحلوى احتفالًا بالنصر، وغيرهم يمدّهم بالرايات لتكون علامات البشائر ومعها صور السيد الشهيد حسن نصر الله، وعلى مداخل بعض المدن والقرى أبى بعض أبنائها أن يدخل أهلها قبل ذبح “كبش فداء” عند أبوابها.
تسرق إحدى السيارات المتجهة جنوبًا الانتباه وسط الزحمة، يقودها شاب بجانبه سيدة خمسينيّة، يضع على مقدّمة سيارته حذاء أحد المجاهدين وربما الشهداء مزيّنًا بالورود الحمراء. رسالة الشاب واضحة، يُفهم معناها من دون سؤال: الجنوبيون يعبرون بفضل دماء الشهداء، وكأنه المعنى في “ادخلوها بسلام آمنين”.
مشهدٌ آخر من القرى الحدودية، وتحديداً الخيام، يقف أحد المواطنين الواصلين إلى البلدة باكرًا مقابل دبابة إسرائيلية تضم جنودًا وتبعد عنه أمتارًا قليلة، يحمل هاتفه ويوثق المشهد، ما أثار غيظ الجنود الذين عمدوا لإطلاق الرصاص ترهيبًا له، لم يهتز ابن الخيام وأكمل توثيق المشهد ساخرًا من الجنود.
“مْباركين بيتنا الشباب يا حاج”، بهذه الكلمات عبّرت سيدة جنوبية عن فرحتها لقيام المجاهدين باستخدام بعض مقتنيات المنزل، تاركين لها رسالة شكر واعتذار. تجول السيدة في منزلها تتفقد كل ركن فيه، وكلما وجدت أثرًا للمجاهدين انطلقت عبارات البهجة من حنجرتها وكأنها تلتمس بركات خفيّة. المشهد عينه تكرّر في قرى عدّة، وفي كلّ مرة كانت فرحة وفخر أهل الديار لا توصف.
في قريتها الواقعة في الخطوط الخلفية، علا صوت الأذان للمرة الأولى منذ شهرين في مقام النبي صدّيق في بلدة تبنين، كانت مريم تتفقد ركام منزلها في هذه الأثناء، لم تتمالك نفسها وغصت في البكاء، تركت كل شيء خلفها واتجهت فورًا نحو المقام الذي كان يحيط به الدمار من كل جانب، وصلت إلى المكان وتوجهت نحو باحته الأمامية حيث يرقد عدد من الشهداء:” الآن سينامون مطمئنين مستأنسين بكلام الله”.
اسم قرية البياضة الجنوبية كان حاضراً بقوة في أيام الحرب الأخيرة، سطر المجاهدون فيها مواجهات بطولية. على ركام أحد المنازل يجلس عدد من شبانها وطائرات الاستطلاع تحلّق فوقهم، يتجاذبون أطراف الحديث ويحتسون القهوة ويتبادلون النكت عن الضربات التي تلقاها الجنود في بيوتهم، ينظر أحدهم نحو السماء في محاولة لرصد الطائرة صارخًا: “صوّر صوّر هون أكلتوا كفوف وهربتوا ونحن عم نشرب قهوة”.
على مدخل إحدى القرى يستوقفك مشهدٌ استثنائي آخر، يقف رجل سبعينيّ أمام صورة ضمت وجه شهيد، يمسح عليها بكلتا يديه، يتمتم كلمات بصوت خافت والدموع لا تتوقف، يرفع يديه نحو السماء ثم يعود نحو سيارته. ربما يجد المشاهد نفسه هنا أمام مشهد وداعي جديد، لكن الأمتعة الموضبة على سقف السيارة تشير إلى أن الرجل هو أب الشهيد عاد اليوم إلى دياره، وأول ما فعله إلقاء السلام على روح نجله.