موسى حسين صفوان
شكّلت الحروب على امتداد التاريخ البشري الدافع الرئيس للتفاعل الحضاري. وبغضّ النظر عن المظالم التي ارتكبها قادة الجيوش لتحقيق نوازعهم الطاغوتية، فقد «اقترن كل تطور للحضارة الإنسانية بإقامة الامبراطورية العظمى. وكان الاعتماد على الجيوش هو الأساس في بناء تلك الحضارات».
* لخدمة حاجات الحرب
وهذا يعني أن العديد من مظاهر الحضارة، خصوصاً ما يتعلق بالصناعات الحربية، كان أسبق إلى الظهور نتيجة الحاجة الماسّة إليه، وذلك بهدف زج كل الطاقات والإبداعات البشرية لخدمة حاجات الحرب. ويظهر هذا الأمر جليّاً من خلال تتبع تطور الصناعة والتجارة، وسائر العلوم النظرية والتطبيقية، حيث كان قادة الجيوش يدفعون بالطاقات الإبداعية لما فيه خدمة مشاريعهم التوسعية، وبهذا يبرز مفهوم جديد للحرب ربّما يستطيع أن يشير إلى أحد الجوانب الإيجابية التي ساهمت في حركة التطور البشري عبر العصور.
على أن هذه المقولة غير كافية لتبرير الاعتداء والغزو وأعمال شريعة الغاب. فحتى الملوك التاريخيين والفاتحين العظام، كانوا يُلبسون فتوحاتهم العسكرية شعارات حضارية وثقافية، سواء كانوا يمارسون أخلاقيات تلك الشعارات أو لا، ممّا يعني اعترافاً صريحاً بعدم شرعية العدوان من أجل العدوان، وهذا يعني أن الأثر الحضاري الإيجابي للحروب على امتداد التاريخ، لم يكن هو العلّة الوجودية ولا حتّى العلة الغائية للحروب. وهذا يقودنا للبحث عن العلَّة الحقيقية للحرب كظاهرة إنسانية وُجدت مع وجود الإنسان، وشكلت ظاهرة اجتماعية إنتروبولوجية منذ تكونت الجماعة الإنسانية الأولى على وجه الأرض، قال تعالى: ﴿… قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء…﴾ (البقرة: 30).
* الحرب: مشروعة وعدوانية
وإذا تعمّقنا في البحث ربما نجد عشرات الأهداف المجملة والتفصيلية للحرب والتي تشترك فيها العوامل العرقية والثقافية والاقتصادية. ولكن كل تلك الدوافع والأسباب يمكن إدراجها في مجموعتين اثنتين هما: الحرب المشروعة، والحرب العدوانية. أما الأولى فتقع تحتها الحروب الدفاعية، والحروب التي تهدف إلى رفع الظلم والتصدّي للطغيان وما شابه ذلك. وأما النوع الثاني فيشمل الغالبية العظمى من الحروب عبر التاريخ، وهي بشكل عام تعدّ تلبية لرغبات ونزوات الإنسان القوي المستكبر التي تبرر له الطغيان والاستيلاء على مقدرات المجتمعات المستضعفة. ومن خلال هذا الصراع بين المستكبرين والمستضعفين، نشأت مجمل مظاهر الحضارة والمدنية البشرية. ومن هنا ندخل إلى مفهوم الحرب في الإسلام.
* لا تظلموا الإسلام
مع الأسف، فقد أدّت ظروف تاريخية عدّة إلى اختلاط مفهوم الجهاد مع مفهوم الحرب في الثقافة الإسلامية. وبما أن الجهاد يعتبر فريضة عبادية في الإسلام، فقد أدى هذا الاختلاط إلى اعتبار معظم المستشرقين أن الإسلام دين السيف وأنه دين دموي، مما استصدر أحكاماً تاريخية مسبقة عدائية تجاهه، ساهمت فيما عرف بخواف أو رهاب الإسلام (إسلاموفوبيا). واعتقد أن المسلمين عبر التاريخ يتحملّون مسؤوليّة كبيرة في هذا المجال. ولا بد أن نبين مفهوم الجهاد ولو بشكل مختصر حتّى نفرق بينه وبين مفهوم الحرب.
* مفهوم الجهاد
الجهاد من الجهد، وهو بذل غاية الوسع بهدف تحقيق هدف ما. والجهاد في الإسلام عنوان عام يقع تحته مفهوم جهاد النفس، وبذل المال، والصلح بين الناس، ونشر الفضيلة بالقول والعمل، ودفع الفساد والظلم بالوسائل المتاحة. وهذه الأخيرة تشكّل صلة الوصل ما بين مفهوم الجهاد ومفهوم الحرب. ولو راجعنا سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة أئمة أهل البيت عليهم السلام، لوجدنا أن الحروب التي شُنّت تحت عنوان الجهاد كانت تقع تحت عنوان الضرورة القصوى، وكان المسلمون يبادرون إلى السلم عند أول فرصة تتاح لهم، قال تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (الأنفال: 16).
لقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعوته بالكلمة ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ…﴾ (النحل: 125). وحيثما وجدت الكلمة سبيلها إلى آذان وقلوب الناس، لم يكن هناك مكان للسيف، ولم يعرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلح إلا وقبلَ به. شهدنا ذلك في الحديبية، ومع يهود ومشركي المدينة، ويهود خيبر ومع نصارى نجران عند نزول آية المباهلة، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107). ولعل أعظم مشهد خلده التاريخ، مشهد عودته مظفراً إلى مكّة التي أُخرج منها خائفاً مظلوماً…
* من أجل العدالة والأمن
ومن هنا، فإن الحرب في المفهوم الإسلامي تقع تحت عنوان الجهاد، الذي يتّخذ عنوان الدفاع بكل تفاصيله للحفاظ على العدالة من جهة، وتحصين عناصر السلام والأمن من العدوان والطغيان والظلم من جهة أخرى. وقد اتخذ الجهاد منذ وجد الإنسان، وحيثما شرَّع الظلم والطغيان لنفسه الاعتداء والغزو والاحتلال، صورة الصراع بين الحق والباطل، الذي اتخذ أحياناً شكل الحوار، وأحياناً أخرى شكل الصدام، وذلك على ضوء المعطيات الواقعية والموضوعية لكل مرحلة من مراحل تطور المشروع الإنساني الحضاري، الذي قاده الأنبياء والأولياء والمصلحون على امتداد التاريخ.
يقول تعالى في سورة البقرة: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ…﴾ (البقرة: 152)، ويقول سبحانه في سورة الحج: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ*الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ*الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحج: 39-41).
* خطّة متكاملة
في هذه الآيات الكريمة معانٍ كثيرة ترسم للمؤمنين خطّة متكاملة للجهاد، نكتفي في هذه المقالة بالنقاط التالية منها:
أولاً: فلسفة الحرب، فقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ…﴾ (الحج: 40) وما ينتج عن هذا الدفع من منع للفساد، وحفظ لمراكز العبادة ومنع للظلم، يشكل مبرّراً للحرب، ويبيّن أن ثمّة مرحلة تتطلب من المؤمنين اللجوء إلى الحرب، حين لا يمكن منع الفساد، ولا يمكن الحفاظ على عناصر الأمن والسلم والحياة الرغيدة إلا بها.
ثانياً: الحرب الدفاعية، فقوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ…﴾ (الحج: 39)، يؤكد على المفهوم الدفاعي للحرب. فما يندفع بدون قتال ينبغي للمؤمنين دفعه به لحقن الدماء، أما إذا بلغ الأمر حداً لا ينفع معه إلا القتال، فعند ذلك يأذن الله سبحانه لعباده بالدفاع، وذلك بعد معالجة ما أمكن من الصبر والتحمّل. فقد نزلت هذه الآية الكريمة بعد أن صبر المسلمون ثلاث عشرة سنة على الأذى والظلم.
ثالثاً: أخلاقيات وآداب الحرب: حيث يؤكّد سبحانه في قوله: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ…﴾ (الحج: 41) على أخلاقيات المجاهدين، وهذا ما عُرف عن المسلمين، من الرحمة والأخلاق الكريمة التي شهد لها الأعداء قبل الأصدقاء…
* الانتصار للحقّ
على أن للحرب فلسفة ليست بعيدة عن فحوى هذه الآيات الكريمة، يقول الإمام عليّ عليه السلام في خطبة الجهاد: «أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصة أوليائه» إلى أن يقول: «فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل، وشمِلَهُ البلاء، ودُيِّث بالصغار والقماءة، وضُرب على قلبه بالإسداد، وأديل الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف ومُنع النصف»(2).
فالجهاد، وهو هنا قتال الأعداء ودفعهم عن باطلهم، يستبدل العزّ بالذل، والعافية بالبلاء والكرامة بالصغار والقماءة، والعقل والحلم بالمسكنة والسفاهة، فضلاً عما فيه من تحصيل الحقوق، واستحقاق الرحمة الإلهية. وأفضل من ذلك كلّه، فإنّ الجهاد، والانتصار الذي وعد الله سبحانه وتعالى به المجاهدين بقوله: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ﴾ (الحج: 40)، يحقّق النَّصف. فالأمة المتخاذلة لن ينصفها أحد، والأمّة المنتصرة تستطيع بعون الله أن تنتصف لحقّها… وهذا هو حال أمتنا المجاهدة بعد حرب تموّز 2006م.
لقد صبرت أمتنا ثماني عشرة سنة، وتحمّلت كل أنواع الظلم والتهم، واستمرّت تجاهد حتى حققت النصر عام 2000م، ويومها برز العديد من الأصوات، حتى من أولئك الذين خاصموها وغمطوا حقها، لتنصفها وتعطيها حقها في الدفاع عن الأرض والكرامة.