Search
Close this search box.

مَنْ راقَبَ الْعَواقِبَ سَلِمَ

مَنْ راقَبَ الْعَواقِبَ سَلِمَ

قد أكَّد القرآن في الكثير من آياته الشريفة على التفكر والتدبر، بل إن القرآن يذهب إلى أبعد من ذلك، إنه يدعو الإنسان إلى أن يرمي ببصره إلى ما بعد الدنيا، إلى الآخرة.

رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “مَنْ راقَبَ الْعَواقِبَ سَلِمَ”.

معادلة أخرى يكشف عنها الإمام أمير المؤمنين (ع) تجسِّد واحدة من أعمق الحِكَم التي تعين الإنسان في حياته اليومية، وفي اتخاذ قراراته المصيرية.

مراقبة العواقب تعني التفكير المسبق والنظر في نتائج الأمور وما يمكن أن تؤول إليه الأفعال قبل اتخاذ أي قرار أو القيام بأي عمل، وهي مهارة عقلية وأخلاقية تعتمد على الحِكمة والتروّي، وتَجَنُّب الاندفاع والعشوائية، الشخص الذي يراقب العواقب يحاول فهم التأثيرات بعيدة المدى لقراراته على نفسه وعلى الآخرين، في الدنيا والآخرة.
وقد أكَّد القرآن الكريم في الكثير من آياته الشريفة على التفكر والتدبر، وسبق أن ذكرتُ في مقالات سابقة أنه لا يوجد كتاب سماوي ولا كتاب بشري دعا إلى التَّعقُّل والتَّفَكُّر والتَّأَمُّل والتَّدَبُّر في العواقب كما جاء في القرآن الكريم، بل إن القرآن يذهب إلى أبعد من ذلك، إنه يدعو الإنسان إلى أن يرمي ببصره إلى ما بعد الدنيا، إلى الآخرة، وينطلق في حياته على ذلك، أي ينظر إلى نهاية رحلته في الحياة ويعمل على هذا الأساس، فالحياة لا تقتصر على الحياة الدنيا، الحياة الدنيا هي مقطع من حياة الإنسان الكبرى، الحياة الأهم من وجهة نظر المؤمن هي الآخرة، ولذلك يرنو ببصره في كل عمل وكل خطوة وكل قرار إلى عواقب ذلك في آخرته فضلاً عن دنياه.
سأكتفي في هذا المجال بالاستشهاد بآيتَين كريمتَين:  الآية الأولى: قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” ﴿18/ الحشر﴾ إن الآية الكريمة تحثُّ المؤمنين على النظر في عواقب أعمالهم، والنظر فيما قدّموا ويقدموا من أعمال، وفيما اتخذوا ويتخذون من قرارات، فليس في ثقافة المؤمن أن يعمل متجاهلاً عواقب أعماله، أو يقرر متجاهلاً عواقب قراراته، بل يحسب خطواته بدقة وفق موازين الشريعة الإلهية، وبالتدبُّر بعواقبها، فما كانت عواقبها سليمة وصحيحة في دنياه وفي آخرته أقدم عليها، وإذا كانت مفيدة له في دنياه ولكن عواقبها في الآخرة كانت وخيمة فإنه يتجنَّبها، لأن الحياة الأخروية عنده هي الأهم،  فالقاعدة التي يقيم عليها سلوكه هي ما قاله الإمام أمير المؤمنين (ع): “مَا خَيْرٌ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ النَّارُ، وَمَا شَرٌّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ، وَكُلُّ نَعِيمٍ دُونَ الْجَنَّةِ فَهُوَ مَحْقُورٌ، وَكُلُّ بَلَاءٍ دُونَ النَّارِ عَافِيَةٌ”
الآية الثانية: قوله تعالى: “أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ” ﴿22/ المُلك﴾  هذه الآية الكريمة تدعو إلى أمرين اثنين:

أولهما: النظرُ في عواقب الأمور، والتطلُّع إلى نهاية المَسار، بحيث لا يكتفي المؤمن بالنظر إلى الخطوة الأولى، فما يليها هو الأهم، والعواقب المترتبة عليها هي الغاية، وعليه أن يهتمّ بذلك، فالذي يمشي مُكِباً على وجهه هو ذاك الذي يقصُر نظره على الخطوة الأولى، ولا يفكر بالخطوة أو الخطوات التي تليها، أي لا ينظر إلى النهايات إنما يهتم بما هو عليه الآن، ومن هذا شأنه فإنه سينحرف بلا شك، وسيضل بلا ريب.

الثاني: الاستقامة على الطريق، ولا يستقيم إلا ذاك الذي عرف إلى أين يتَّجه، يحدّد الغاية وينطلق نحوها لا يميل عن الطريق المؤدية إليها صوب هذه الناحية أو تلك، والتعبير القرآني عن هذا جاء في منتهى البلاغة والقوة، فالذي يمشي مُكِباً على وجهه إما أن يكون هو الذي يمشي على وجهه فعلا لا على رجليه في استقامة كما خلقه الله، وإما أن يكون هو الذي يعثر في طريقه فينكَّب على وجهه، ثم ينهض ليعثر من جديد! وهذه كتلك حال بائسة تعاني المشقة والعسر والتعثُّر، ولا تنتهي إلى هدى ولا خير ولا وصول! وأين هي من حال الذي يمشي مستقيماً سوياً في طريق لا عِوَج فيه ولا عَثرات، وهدفه أمامه واضح مرسوم؟! فأيهما أهدى؟ وهل الأمر في حاجة إلى جواب؟ إنما هو سؤال التقرير والإيجاب! فنحن نستقبل مشهدين: مشهد شخص يمشي على وجهه مُتعَثِّراً لا هدف له ولا طريق ولا يعرف عاقبة أمره، ومشهد شخص آخر يسير  على هدى ووضوح في الرؤية، يعرف عاقبة أمره ويتّجِه إليها مستقيم الخُطوات.

خلاصة القول: على المَرء إذا ما أراد النجاح في حياته الدنيوية والأخروية أن يكتسب مهارة مراقبة العواقب، بالتَّعلُّم من من تجاربه، ومراجعة أخطائه السابقة، والتفكير في أسبابها وعواقبها، والتأمَّل الدائم، والتفكير قبل اتخاذ أي قرار، واستشارة ذوي الخبرة والحكمة، وتدريب العقل على التفكير في النتائج طويلة الأمد وليس فقط النتائج اللحظية، مع طلب الهداية من الله لاتخاذ القرارات الصائبة، كما ورد عن النبي (ص): “اللَّهُمَّ خِرْ لي واخْتَرْ لي”.

بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل