حرِيٌّ بالمرء الذي يُقَدِّر ذاته، ويأبى أن تكون أفعاله إلا حَسَنَة كاملة يَزيْنُها بميزان الذَّهب، وأن يتحكَّم في تصرُّفاته كي لا تكون منه تصرُّفات مُتَهَوِّرة طائشة.
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “مَنْ أَكْثَرَ الإسْتِرْسالَ نَدِمَ”.
معادلة تربط بين الاسترسال والندم، والاسترسال هو الإطالة والمُضِيُّ في الحديث أو الفعل بدون تحفُّظ أو توقف، فالأمر يتعلق بممارسة الأعمال والنشاطات أو الحديث بشكل مطول وعَفوي دون مراعاة للحدود أو القيود اللازمة، وفي سياق العبارة، يمكن أن يكون الاسترسال في الكلام أو في التصرُّفات بشكل يتجاوز الحدود الملائمة أو الاحتياط.
وإنما يندم المسترسل لأنه غالباً ما يفضي به استرساله إلى مشاكل مع الآخرين، أو يأخذه إلى مواقف غير مرغوب فيها، فعندما يطيل الإنسان في الحديث أو الفعل دون تفكير أو تَحَكُّم، فإنه يفتح الباب أمام الأخطاء، والأخطاء تنتهي به إلى الندم، فقد يقول أو يفعل ما لا ينبغي، أو قد يتسبَّب في إيذاء نفسه أو الآخرين بشكل غير مقصود، فيندم لأنه لم يكن حكيماً أو مُتَحَفِّظاً في تصرُّفاته.
ولهذا جاء النهي في عن الإكثار من الكلام والاسترسال فيه من غير ضرورة، فقد رُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين (ع)أنه قال: “إيّاكَ وكَثرَةَ الكَلامِ، فإنّهُ يُكثِرُ الزَّلَلَ ويُورِثُ المَلَل” وقال: “مَن أكثَرَ أهجَرَ، ومَن تَفَكَّرَ أبصَرَ”. وقال: “مَن أطالَ الحَديثَ فيما لا يَنبَغي فَقد عَرَّضَ نفسَهُ لِلمَلامَةِ” وقال: “الإكثارُ يُزِلُّ الحَكيمَ ويُمِلُّ الحَليمَ، فلا تُكثِرْ فَتُضجِرَ وتُفَرِّطْ فَتُهَنَ”.
وإذا كان لكل شيء آفة، فإنَّ “آفَةُ الكلامِ الإطالَةَ” وآفة العادة الاسترسال فيها، وآفة الثقة الاسترسال فيها مع وجود مُؤشِّرات على الخيانة، وآفة الأعمال الاستمرار فيها مع ظهور الخطأ فيها.
فحرِيٌ بالمرء أن يتكلم بالقَدْرِ الواجب، من غير إطناب مُمِلٍّ، أو إيجاز مُخِلٍّ، مراعياً حال المُتلقّي من حيث إقباله عليه أو انصرافه عنه، ومن حيث قدرته على الاستيعاب، فلا يكلِّمه بما لا يستوعبه ولا يفقهه، وأن يعلم أن ما زاد عن الحاجة أنتج عكس ما يريد، وأنه مسؤول عن كل كلمة ينطق بها، فيمعن التفكير فيها قبل النطق بها، ويتدبَّر في عواقبها، وقد رُوِيَ عن رسول الله (ص) أنه قال: “إنّ الرجُلَ لَيتكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضوانِ اللَّهِ ما كانَ يَظُنُّ أن تَبلُغَ ما بَلَغَت يَكتُبُ اللَّهُ تعالى لَهُ بها رِضوانَهُ إلى يَومِ يَلقاهُ، وإنّ الرجُلَ لَيَتكلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ ما كانَ يَظُنُّ أن تَبلُغَ ما بَلَغَت يَكتُبُ اللَّهُ لَهُ بها سَخَطَهُ إلى يَومِ يَلقاهُ”.
وحرِيٌّ بالمرء الذي يُقَدِّر ذاته، ويأبى أن تكون أفعاله إلا حَسَنَة كاملة يَزيْنُها بميزان الذَّهب، وأن يتحكَّم في تصرُّفاته كي لا تكون منه تصرُّفات مُتَهَوِّرة طائشة، وأن يُدَرِّب نفسه على الإمساك بلسانه، والتحكُّم بتصرَّفاته، وأن ينخرط في الحوارات بشكل بَنَّاء وبدون إطالة غير ضرورية، أو الذهاب بعيدا عن صلب الموضوع الذي يُحاور فيه.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي