إن تهذيب النفوس غاية كبرى يجب ألا تغيب عن ذهن أي شخص منا، فإن الكمال الإنساني المعنوي منه والمادي رهن ذلك، وهو مقدمة ضرورية لتهذيب المجتمع والأمة والعالم بأسره.
رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “مَنْ سَاسَ نَفْسَهُ أَدْرَكَ السِّياسَةَ”.
معادلةٌ أخرى يكشف عنها الإمام أمير المؤمنين (ع)، تربط بين سياسة النفس (تهذيبها) وسياسة المجتمع وإدارته، تقول المعادلة: إن من يضبط نفسه ويسوسها ويهذبها، ويتحكم بأهوائها ويضبط شهواتها وينمّي فضائلها، يكون قد أتقن فنَّ السياسة، وبالتالي يكون جديراً بسياسة وإدارة الآخرين بخبرة ودقة وحكمة، وأن القائد الناجح هو الذي يبدأ أولا بسياسة نفسه وإصلاحها قبل سياسة الآخرين وإصلاحهم.
وما من شك في أن تهذيب النفوس غاية كبرى يجب ألا تغيب عن ذهن أي شخص منا، فإن الكمال الإنساني المعنوي منه والمادي رهن ذلك، وهو مقدمة ضرورية لتهذيب المجتمع والأمة والعالم بأسره، وإن أعظم أزمة واجهتها وتواجهها البشرية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً ترك النفوس الطموحة الجموحة أسيرة أهوائها وشهواتها، وإطلاق العنان لها تفعل ما تشتهيه وتحبُّه، هذه هي الأزمة الكبرى، ومعظم الأزمات الأخرى ناشئة عنها، وما شهدته وتشهده البشرية من صراعات ونزاعات وحروب، ونهب للثروات، وقتل للملايين من البشر، سببه أزمة أخلاقية عميقة، ولا يمكن تجنُّب ذلك إلا بتهذيب النفوس وسياستها.
إن الطريق إلى امتلاك السياسة وإدارة شؤون المجتمع يبدأ أولاً بضبط النفس وترويضها، لأن من يعجز عن سياسة نفسه فهو عن سياسة الآخرين أعجز، فالتزكية الذاتية للنفس، شرط أساسي للقيادة الناجحة والعادلة والراشدة.
ولا شك أن الإمام أمير المؤمنين (ع) يتحدث عنها عن القيادة من منظور إيماني، وهي تختلف جذرياً عن القيادة من منظور لا ديني ولا إيماني، ففي هذه يكفي أن يحقق للجماهير مصالحها المادية الدنيوية، وأن يجلب إليهم المنافع من البلاد البعيدة لو كانت منهوبة، القائد من منظور لا ديني ليس مطلوباً أن يكون مهذَّب النفس متصفاً بالفضائل الأخلاقية، إنه قائد دنيوي وحسب، أما القيادة من منظور إيماني فهي قيادة أخلاقية ربانية، تقود الناس إلى الفلاح والفوز في الآخرة، وتعمل على صناعتهم صناعة ربانية، فتزكي نفوسهم وتنَمِّي فضائلهم، وتحرص على استقامتهم أخلاقياً وسلوكياً، وتجُنِّبهم الظلم لأنفسهم الذي يتثمل بارتكاب الحرام، كما تجنِّبهم الظلم لسواهم من الناس.
وعليه: فإن المعادلة التي نحن بصددها تدعو إلى التزكية الذاتية كشرط أساسي لقيادة عادلة ورشيدة، إذ إنَّ الشخص الذي يحكم يزكي نفسه ويسوسها وفق القِيَم الربانية السامية يستطيع أن يؤثِّر إيجاباً على محيطه ويقود الآخرين نحو الصلاح والإصلاح، فالقيادة المؤثِّرة الحقيقية تنبع منَ القدرة على تزكية النفس والإمساك بشهواتها وغرائزها، ومن هنا، فإنَّ من لا يُتقن تدبير نفسه نفسه لا يُتقن تدبير شؤون الناس، ومن يتمكن من كبح جماح أهوائه وشهواته والتحرر من سطوة غرائزه فهو جدير بتدبير شؤون الآخرين بعدالة، لأنه يصبح قادراً على اتخاذ قراراته بموضوعية وعدالة.
والذي يتمكن من سياسة نفسه وتزكيتها يمكنه بحق أن يواجه وبقوة وشجاعة تحديات الحياة وأزماتها، وتخطي مصاعبها والصبر على متاعبها، ولذلك فإن تربية النفس والتزكية من أهم شروط القيادة الجديرة، ومن هنا يمكننا القول: إن الإمام (ع) يرى أن الإصلاح السياسي العام يبدأ من العمل على تزكية النفوس وتهذيبها، ليكون الشخص قدوة لسواه من يقودهم ويسوسهم.
إن قوله (ع): “مَنْ سَاسَ نَفْسَهُ أَدْرَكَ السِّياسَةَ” دعوة خالدة لكل زمان ومكان وإنسان، للبدء بالنفس وتزكيتها وتنمية فضائلها، وهي لا تقتصر على السياسة فقد بل تمتدُّ إلى جميع مناحي الحياة الإنسانية.
بقلم الباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي