إنّ تقلّبات الزمان سُنَّة من سُنَنِ الله لا تجري علينا وحسب، بل هي جارية على طول التاريخ، ومع جميع البشر، يستوي في ذلك المؤمن والكافر، والصالح والطالح، والغني والفقير، والحاكم والمحكوم.
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “مَنْ عَرَفَ الْأَيّامَ لَمْ يَغْفُلْ عَنِ الاسْتِعْدادِ”.
معادلة تربط بين معرفة الأيام وأنها متقلبة بأهلها من حال إلى حال، تحمل إليهم الخير والشر، والفرص والمصائب، لا يعرفون شيئاً عن تحولاتها وتغيراتها التي غالبا ما تكون مفاجئة، وبين اليقظة الروحية والعملية والاستعداد لما يمكن أن تهجم به عليهم من أحداث وتحوّلات وتقلُّبات.
والمعادلة تدمج بين الحكمة النظرية والتوجيه العملي، لترسم للإنسان مساراً متوازناً بين الدنيا والآخرة، فالاستعداد ليس خوفاً من المستقبل، بل وعياً بحكمة الله في اختلاف الأيام، واستثماراً لكل لحظة في رضاه تعالى وفي مصلحة الفردـ
لا أحد قارئي الكريم يناقش في أن الأيام متقلِّبة بأهلها، وليست ثابتة على حال واحد، فكما أن اليوم يتألف من ليل ونهار، ينسلخ هذا من ذاك، ويأتي ذاك بعد هذا، كذلك الأمر فيما تأتي به من تحولات، ولا يملك المرء حيال ذلك من خيار إلا التسليم لهذا القدر والاستعداد لما قد يأتي، وقد تحدَّث الإمام أمير المؤمنين (ع) فقال: “الدَّهرُ يَومانِ: فيَومٌ لَكَ ويَومٌ علَيكَ، فإذا كانَ لكَ فلا تَبطَرْ، وإذا كانَ عَليكَ فلا تَحزَنْ، فَبِكِلَيهِما سَتُختَبَرُ” حيث ينبِّه (ع) إلى تصاريف الأيام، فيوم نُسَرُّ فيه، ويوم نحزن فيه، يوم نكون فيه أصِحّاء معافين، ويوم نكون فيه مرضى متألمين، يوم تُفتح فيه علينا أبواب الرزق، ويوم تُغلَق عنّا، يوم نتقدم فيه إلى غاياتنا ويوم نتأخر فيه عنها، يوم ننجح فيه ويوم نفشل فيه، وفي كل هذه الأحوال نختبر إرادتنا، وعزمنا، ورضانا، وصبرنا، وتقبّلنا، وتعاملنا الواعي مع ما تجيء به الأيام، فإن جاءتنا بالقدرة والغنى فلا نبطر، ولا نتكبر، ولا نغتر، وإن جاءتنا بالفقر والضعف فلا نيأس، ولا نحزن، ولا نستسلم استسلام الضعيف الذليل.
وينبهنا الإمام (ع) إلى حقيقة أن تقلّبات الزمان سُنَّة من سُنَنِ الله لا تجري علينا وحسب، بل هي جارية على طول التاريخ، ومع جميع البشر، يستوي في ذلك المؤمن والكافر، والصالح والطالح، والغني والفقير، والحاكم والمحكوم، وأن تقلّباتها متواصلة مستمرة، لا شيء منها يدوم، فلا القدرة تدوم ولا الضعف يدوم، فإن كنا ضعفاء لا نيأس، وإن كنا أقوياء لا نبطر ولا نتجبر، إيمانا منا بأن الحال لن تبقى على ما هي عليه، وذلك يحثُّنا على الإستفادة القصوى من حال القوة والقدرة لحال الضعف والقِلَّة، وقال (ع): “إنّ الدَّهرَ يَجرِي بالباقِينَ كَجَريِهِ بالماضِينَ، ما يَعُودُ ما قَد وَلّى، ولا يَبقَى سَرمَداً ما فيهِ، آخِرُ فِعالِهِ كَأوَّلِهِ، مُتَسابِقَةٌ اُمورُهُ، مُتَظاهِرَةٌ أعلامُهُ”.
وجاء فيما أوصى به ولده الإمام الحسن المجتبى (ع) أن قال: “واعلَم يا بُنَيَّ إنّ الدَّهْرَ ذو صُروفٍ فَلا تَكُن مِمَّن يَشتَدُّ لائمَتُهُ ويَقِلُّ عند الناسِ عُذرُهُ” فلا ينبغي أن نلوم الدهر فيما يأتينا به من تقلبات، بل نلوم أنفسنا حين لم نستعد لها، ونستفيد منها.
هذا هو المنهج الذي يدعونا الله تعالى في كتابه الكريم لاعتماده في حياتنا في هذه الدنيا، منهج الاستعداد الدائم لما سيأتي، ولما نحن قادمون عليه، منهج اليقظة الدائمة، والابتعاد عن الغفلة المُهلِكة، وأهمُّ ما يجب الاستعداد له الموت الذي لا ندري متى يفجؤنا، والآخرة التي نحن قادمون عليها، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿18﴾ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿الحشر:19﴾.
في هاتين الآيتين الكريمتين دعوة ربانية لنا إلى تقوى الله، والنظر في أعمالنا، وما نقدِّمه لغدنا من خير نجده عند الله، وألا يكون حاضرنا وعاجل أمرنا هو الذي يحكم أعمالنا، ويوجِّه تصرفاتنا، وأن نتقي الله باتقائنا محارمه، واجتناب نواهيه، ونراجع أنفسنا دائماً بين يدي جلال الله وعظمته وسُلطانه، ونحاسبها على الصغير والكبير من أمورها، حتى لا نميل مع أنفسنا، ولا تغلبنا أهواؤنا على تقوى الله، ولا نكون من الذين نسوا الله، فتخلو قلوبنا من تقواه وخشيته، ولا ننظر فيما نقدِّمه لغدنا، فننسى أنفسنا بعدم الاهتمام بما يُصلحها ويفيدها.
وهذا رسول الله (ص) يحثُّنا على الإستفادة من أعمارنا وهي مجموع أيام نعيشها في الدنيا، أن نستفيد منها قبل فواتها، فيقول: “اغْتَنِمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وفَراغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وحَياتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ”
نستنتج مما سبق: أن الانسان الذكي هو الذي يُحسِن استثمار عمره، لأنه الفرصة التي سريعا ما تنقضي ولا ترجع أبداً، يستثمره كي يحقِّق النجاح في الدنيا والسعادة في الاخرة، وذلك يوجب عليه أن ينظِّم وقته، فإن تنظيم الوقت يساعد على الإفادة القصوى منه، وأن يراجع نفسه كل يوم، فإذا وجدها فعلت خيراً زاد منه، وإذا وجدها فعلت سوءاً أصلحه وانتهى عنه.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي