إن الباطل لا ينتصر من تلقاء نفسه، لأنه زهوق بطبعه، إنما ينتصر بأهله الذين يخلِصون له، أو بخذلان أهل الحق للحق وعدم دفاعهم عنه، وإن الحق منتصر لأن أبلج بطبعه، لكنه قد ينهزم بسبب خذلان أهله له، وعدم استعدادهم لتحمُّل كُلفة حمله والذَّود عنه.
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “مَنْ أَضعَفَ الْحَقَّ وَخَذَلَهُ، أَهْلَكَهُ الْباطِلُ وَقَتَلَهُ”.
تكشف هذه المعادلة عن العلاقة الجوهرية بين الحق والباطل، حيث تُبرز خطورة التخاذل عن نُصرة الحق، وتكشف عن العواقب الوخيمة لضعف الإرادة في مواجهة الباطل، هذه المعادلة تُشكِّل قاعدة أخلاقية وإيمانية تُحذِّر من إضعاف الحق أو خذلانه، وتؤكد أن تركه دون الصّدع به وتأييده ومناصرته والذَّود عنه، يوفِّر الفرصة لانتصار الباطل وهيمنته، ويصبح الشخص أو المجتمع الخاذل للحق هدفاً سهلاً للباطل، الذي يستغل الفراغ ليتوسَّع ويمتدد ويُهلكه.
إن من طبيعة الباطل ألّا يكتفي بالوجود، بل يسعى لإبادة الحق وأهله، والحياة الإنسانية وإن كانت قائمة على الصراع بين الحق والباطل، وهو صراع تاريخي يمتدَّ بامتداد الحياة الإنسانية نفسها، لكن الواقع لا يتسع لكليهما، فإما حق وإما باطل، فإن بُنِيَ على الحق فمن شأنه الثبات والاستمرار، والصلاح، والرخاء، والرغد، والسلام، والحياة الطيبية الوادعة، وإن بُنِيَ على الباطل فالنتيجة هي الحروب، والظلم، والجَور، والقتل، والضيق، والضنك، وذهاب الأمن والأمان، والحياة التعيسة البئيسة.
ولذلك لا يمكن للإنسان أن يجمع بين الحق والباطل، أو يوائم بينهما، أو يعطي هذا وذاك، وليس له أن يهادن الباطل، أو يسكت عنه، بل عليه أن يتخذ منه موقفاً صريحاً لا لبس فيه، وأن يعمل على مواجهته بالطرق والوسائل المتاحة، وإضعافه ما أمكن، وكشف زيفه، وفضح أهله، وفي المقابل عليه أن يقف مع الحق، ويدعو إليه، ويصدع به، وينصره، ويكون جندياً من جنوده في أي موقع اجتماعي كان، أو إلى أي جهة انتمى.
إن الباطل لا ينتصر من تلقاء نفسه، لأنه زهوق بطبعه، إنما ينتصر بأهله الذين يخلِصون له، أو بخذلان أهل الحق للحق وعدم دفاعهم عنه، وإن الحق منتصر لأن أبلج بطبعه، لكنه قد ينهزم بسبب خذلان أهله له، وعدم استعدادهم لتحمُّل كُلفة حمله والذَّود عنه.
أولئك الذي يحبّون الحق، ويحبّون أن ينتصر، ويكرهون الباطل ويحبّون أن ينهزم، ولكنهم غير مستعدين أن يتحَّملوا كُلفة ذلك فينأون بأنفسهم عن الحق والباطل معاً، يتخذون موقفاً حيادياً لا مع هذا ولا مع ذاك، فإنهم يُسَهِّلون المَهمَة على الباطل ولو لم يريدوا ذلك، فهم في المحصَّلة النهائية أقرب إلى الباطل منه إلى الحق، إذ هم يخذلون الحق بلا شك، وخذلان الحق ليس مجرد تقصير بل مشاركة غير مباشرة في انتصار الباطل، فهم من حيث شاؤوا أو لم يشاؤوا أدوات سلبية في يد الباطل، إنهم كما قال الإمام أمير المؤمنين (ع) في الذين اعتزلوا القتال في معركة الجمل فلم يقاتلوا معه، ولم يقاتلوا مع أصحاب الجمل، فقد رُوِيَ أن الحارثَ بنَ حَوْطٍ أتى أمير المؤمنين (ع) فقال له: أتراني أظنُّ أصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟ فقال (ع): “يَا حَارِثُ إِنَّكَ نَظَرْتَ تَحْتَكَ وَلَمْ تَنْظُرْ فَوْقَكَ فَحِرْتَ، إِنَّكَ لَمْ تَعْرِفِ الْحَقَّ فَتَعْرِفَ مَنْ أتَاَهُ، وَلَمْ تَعْرِفِ الْبَاطِلَ فَتَعْرِفَ مَنْ أتَاَهُ”، فقال الحارث: فإني أعتزل مع سعد بن مالك وعبد الله بن عمر، فقال (ع): “إِنَّ سَعْداً وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ لَمْ يَنْصُرَا الْحَقَّ، وَلَمْ يَخْذُلَا الْبَاطِلَ” وجاءت الرواية بصيغة أخرى وهي قوله (ع): “خَذَلُوا الْحَقَّ، وَلَمْ يَنْصُرُوا الْبَاطِلَ” .
نستنتج مِما سبق: أن من يُضعِف الحق ويخذله، لن يكون بمنأى عن الباطل، فإنه سيهلكه هو الآخر، وذلك يدعونا إلى ضرورة التمسك بالحق، وعدم السكوت عن الظلم، ومواجهة الباطل دائماً، والبحث المستمر عن الحق وفهمه ومعرفة أهله، وتشخيص الباطل وأهدافه، ومعرفة أهله، وأدواته، وأساليبه.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي