مَنْ كَشَفَ مَقالاتِ الْحُكماءِ انْتَفَعَ بِحَقائِقِها

مَنْ كَشَفَ مَقالاتِ الْحُكماءِ انْتَفَعَ بِحَقائِقِها

إن الحكمة هي مظهر من مظاهر الإلهام الرباني للأشخاص، وهي النور الذي يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده، ويجريه على ألسنتهم.

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “مَنْ كَشَفَ مَقالاتِ الْحُكماءِ انْتَفَعَ بِحَقائِقِها”.

ولا ينتفع من حِكَم الحُكَماء، وأفكار المفكرين، وعلوم العلماء، ومواعِظ الوُعّاظ، إلا ذاك الشخص الذي يُمعِن النظر فيها، ويغوص في أعماقها، ويستوضع أبعادها ومراميها، ويقف على معانيها وحقائقها.

ونعم لا يكفي أن يردِّد الحكمة بلسانه، أو يكتفي بما يبدو له من ظاهر اللفظ والقول والحكمة، فالمطلوب هو الكشف عما تستبطن من معانٍ، وما ترمي إليه من غايات، وما تثيره من أفكار، وما توحي به من إلهامات، وهذا فعل يستلزم بذل الجهد العقلي والفكري، والانفتاح القلبي، فالحقائق لا تُنال بالسطحية، وإنما بالغوص في المعاني، ومجالسة العقلاء، وتفكيك العبارات للوقوف على ما وراءها، فليست كل مقولة تُنسب لحكيم هي بالضرورة حكمة، ولا كل من سمع حكمة أدرك حقيقتها، بل إن الحكمة لا تصبح نافعة إلا حين يُكشَف عنها بالحجة، والمقارنة، والتجربة، الكشف عن الحكمة يشبه التنقيب في باطن الأرض: فهناك من يجد تراباً، وهناك من يجد ذهباً، والفارق هو في مقدار الجهد، والنية، والبصيرة.

والحكمة قارئي الكريم، هي مظهر من مظاهر الإلهام الرباني للأشخاص، وهي النور الذي يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده، ويجريه على ألسنتهم، قال تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿البقرة:269﴾. إن الله تعالى لا يَهَب الحكمة لكل شخص، بل يهبها لمن لديه الاستعدادات والقابليات التي تؤهِّله لها.

والحكمة هي: الحقائق الثابتة وما يدعو إليه العقل ويوجبه، والاتهام لداعى الهوى ووساوس الشيطان، والبصيرة النافذة، التي تقدِّر الأمور بقدرها، وتضع كل شى‏ء موضعه، وفي أوانه الملائم، وبالقَدر الملائم، ومن يُؤتَى الحكمة فقد أوتِيَ خيراً كثيراً، إذ يكون أمره إلى عقل يهديه، وبصيرة تقيمه على سواء السبيل، فلا يفعل إلا خيراً، ولا يقول إلا خيراً، ولا يجني إلا خيراً.

وقد ذكرت الروايات الشريفة الواصلة إلينا عن رسول الله (ص) والأئمة الأطهار (ع) بأنها: طاعة الله، ومخافته، واجتناب الكبائر التي أوجب الله عليها النار، ومعرفة الإسلام، ومعرفة الإمام، والتفقُّه في الدين.

إن قوله (ع): “مَنْ كَشَفَ مَقالاتِ الْحُكماءِ انْتَفَعَ بِحَقائِقِها” ليس دعوة إلى التأمل في الحكمة، ومقالات الحكماء والعلماء وحسب، بل فيه إشارة إلى الطريق الذي يجب أن يسلكه طالب الحقيقة، وذلك بأن يكون مستكشفاً كُنه الحكمة لا حافظا لها وحسب، أن يكون باحثاً في مراميها وأبعادها لا مقلداً يردِّدها دون فهم، فالعاقل لا يمُرُّ بالحكمة مرور الكرام، بل يغوص في أعماقها، ليستخرج دُررها، ويستضيء بها لجعلها مناراً لمسيرته في الدنيا والآخرة.

ولا بد لذلك من الحرص على سلامة نيته، فإن طلب الحكمة والعلم لا بد وأن يكون بدافع شريف، وبقصد الهداية والعمل، لا بقصد التفاخر والتعالي، وأن يكون عميق النظر بعيد الغَور، لا يكتفي بظاهر الكلام، ولديه قدرة على ربط الحكمة بمجريات الحياة الشخصية والاجتماعية.

والأمر المهم الذي يجب أن يحرص عليه أن يكون منفتحاً على الآراء المختلفة، باحثاً عن الحكمة بعيداً عَمَّن يقولها أو يتبناها، فالحكمة لا تتقيَّد بعرق من الأعراق، ولا بدين من الأديان، ولا بكون الشخص ولياً أو عدواً، فقد رُوِيَ عن نبي الله عيسى بن مريم (ع) أنه قال: “لَو وَجَدْتُم سِراجاً يَتوَقَّدُ بالقَطِرانِ في لَيلَةٍ مُظلِمَةٍ لاسْتَضَأْتُم بهِ ولَم يَمْنَعْكُم مِنهُ رِيحُ نَتْنِهِ، كذلكَ يَنبغي لَكُم أنْ تأخُذوا الحِكمَةَ مِمَّنْ وَجَدْتُموها مَعهُ، ولا يَمْنَعَكُم مِنهُ سُوءُ رَغْبَتِهِ فيها”.

ورُوِيَ عن رسول الله (ص) أنه قال: “كَلِمَةُ الحِكْمَةِ ضَالّةُ المُؤْمِنِ، فَحَيْثُ وَجَدَها فهُوَ أَحَقُّ بِها”، وعن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: “خُذِ الحِكْمَةَ أَنّى‏ كَانَتْ، فَإِنَّ الحِكْمَةَ تَكونُ في صَدْرِ المُنافِقِ فتَلَجْلَجُ في صَدْرِهِ حتّى‏ تَخْرُجَ، فتَسْكُنَ إلى‏ صَواحِبِها في صَدرِ المؤمنِ”.

بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل