رسالة الإمام موسى الصدر إلى المسؤولين اللبنانيين

رسالة الإمام موسى الصدر إلى المسؤولين اللبنانيين

قد دعا الإمام موسى الصدر في رسالته إلى عدم ترك الجنوب اللبناني وحيدًا في ميدان المواجهة،وإلى الكف عن المواساة الفارغة من مضمون الالتزام والتصرف العملي،كما يجري في أيامنا هذه.

حينما تصم الآذان عن سماع المنكر السياسي، وتعمى العيون عن رؤية حقائق الأمور، وخصوصًا في ما يتعلق بالواقع اللبناني بكل تحولاته المستعصية، وعطفًا على ما سبق منا من قول في العقول التالفة، والتصريحات السياسية الواهية، نستحضر عقودًا من الزمن اللبناني، وهي عقود تكاد تبلغ الستة عقود من الترهل اللبناني في إدارة الأزمات، وكم كان حريًا بالمسؤولين اللبنانيين استحضار ما يُنير طريقهم في الوعي السياسي، والإطلاع على حقيقة ما ادّخره التاريخ اللبناني المشرق من رسائل النور في توجيه العقول وتنبيه الضمائر.

ولعلنا لا نخطىء القول: إن أهم هذه الرسائل،هي رسالة الإمام الصدر للمجلس النيابي اللبناني بتاريخ ٤ كانون الأول عام ١٩٦٩م.فالإمام يخاطب اللبنانيين عبر مجلسهم النيابي، ولو تأمل الذين يعملون في الحقل السياسي في مضمون هذه الرسالة، لعلموا حقيقة الموقف الوطني، الذي تعبر عنه هذه الرسالة،فهي تكشف أكاذيب السياسة، وتفضح كل الساعين إلى ربط العمل المقاوم بالمصالح الخارجية!

فالرسالة تقول:”لا ينبغي ترك الجنوبيين وحدهم في ميدان المواجهة مع العدو…والجنوب القوي،هو سياج لبنان واللبنانيين،وسلاح العرب والحق…”.لقد سمع النواب هذا الخطاب،ووعاه الشعب اللبناني جيدًا،ويفترض بالمسؤولين أن لا يتجاوزوا حدود اللياقة في مخاطبة اللبنانيين بما سبق لهم الوعي به،ومعايشته عن قرب في كل ما جرى من أحداث على ساحة الجنوب.

ويقول الإمام موسى الصدر لنواب الأمة:”لقد كان الجنوب منذ تأسيس معسكر العدو بشكل دولة إسرائيل،منطقة قلق،وذلك لوجود الأطماع التاريخية والعسكرية والاقتصادية التي ظهرت للجميع…”.وهنا نسأل،ما هي جدوى التصريحات السياسية التي يُغمز بها إلى تصدير الثورة الإيرانية،وبأن ذلك قد ولى إلى غير رجعة؟فهل كانت الثورة موجودة يوم وجه الإمام رسالته إلى اللبنانيين؟أم أن هذا العدو ليس له تاريخ من العدوانية على شعب لبنان وأرضه؟ فإذا كان الحاكم السياسي يجهل تاريخ لبنان،وكل مجرياته وأحداثه على ساحة الجنوب منذ تأسيس الكيان الصهيوني،فكيف لنا أن نفهم طريقة أو منهجية هذا الحاكم،سواء في الوعي السياسي،أو في التعقّل التاريخي للأزمة اللبنانية!

فالإمام الصدر قبل عقد من انتصار الثورة في إيران في عام ١٩٧٩م،خاطب المواطن اللبناني بضرورة القيام بالمقاومة اللبنانية،وعدم ترك الجنوب وحيدًا في مواجهة العدو،ورأى بأن قوة الجنوب،هي ضمانة وجود الدولة وبقائها،فما معنى أن يتجاهل الحاكم تاريخ هذا الصراع مع العدو منذ تشكّله،ليعطي هذا الصراع بعدًا آخر من خارج الأفق اللبناني وجوهر صراعاته التاريخية؟ فلو تدبّر اللبناني جيدًا في رسالة الإمام،لانكشفت له حقيقة المراد من وراء تشويه الرؤية والموقف تحت عناوين السيادة والإصلاح!

ومما لا شك فيه أن المنابر العربية التي استمعت إلى خطاب المسؤول السياسي اللبناني،سبق لها أن وعت تاريخ الصراعات اللبنانية؛ولكنها لم تكن تملك إرادة الدعم لجعل الجنوب اللبناني قوة عربية في مواجهة الاحتلال!؟فيا ليتنا نقف على حقائق الأمور،ونتقي الله في ما نؤديه من مسؤولية وطنية وتاريخية.لقد أوضح الإمام الصدر في رسالته الوطنية،أن الصراع مع العدو ليس مجرد موقف سياسي،وإنما هو يتجاوز ذلك،ليكون صراعًا وجوديًا يفرض على اللبنانيين والعرب وكل أحرار العالم الإعداد له والمشاركة فيه،فإذا كانت إيران الإسلامية،وكثير من العرب قد التزموا بدعم لبنان والدفاع عنه في مواجهة العدو،فهذا كان وسيبقى من الواجب الوطني والديني والقومي والرسالي،ولا يكون تصديرًا للثورة،أو تجاوزًا للموقف اللبناني التاريخي في مقاربة هذا الصراع مع العدو!

لذا،فإن تجاوز أي مسؤول سياسي لما تقتضيه المسؤولية من التزام وأمانة في مقاربة الأحداث،يجعله متهمًا ومحرّفًا للحقائق،ومتجاوزًا لكل التضحيات اللبنانية في مواجهة العدو،إذ إن مقتضي المسؤولية،يفترض عدم التغاضي عن حقائق التاريخ والجغرافيا،لإخراج الموقف وفق رغبات الأعداء ومصالحهم!
فالمقاومة دافعت عن لبنان كله،وقد احتفل الوطن كله بعيد التحرير،فهل كان الاحتفال مجرد تعبير سياسي كاذب أم كان وعيًا بحقيقة الموقف،وتعقّلًا للأحداث والتجارب؟لقد دعا الإمام في رسالته إلى عدم ترك الجنوب وحيدًا في ميدان المواجهة،وإلى الكف عن المواساة الفارغة من مضمون الالتزام والتصرف العملي،كما يجري في أيامنا هذه،في ظل معزوفة حصر السلاح،وعدم جدوى ثنائية السلاح،! وكأن المطلوب،هو تجاوز العمل المقاوم،والاكتفاء بالعمل السياسي للدفاع عن الجنوب وتحرير الأرض!

ظنًا من هؤلاء أن دبلوماسية الموقف كافية لتحقيق ذلك رغم علمهم اليقيني بأن الصراع لا تكفيه السياسة،وتبعية المواقف ،وقد سبق لهم أن جرّبوا بكل الوسائل المتاحة لديهم،ولم يفدهم ذلك في شيء،بل زاد من قوة العدو،وجعله أكثر إصرارًا على ممارسة العدوانية!فالإمام الصدر قال بوضوح لا نريد للعواطف أن تكون بديلًا عن الموقف العملي في الدعم والمقاومة،ويمكن لأصحاب الدبلوماسية الذين يريدون حكم لبنان بمعزل عن التاريخ وأحداثه،مراجعة رسالة الإمام،ليعرفوا كيف أن الإمام يخاطبهم اليوم بعد نصف قرن من الزمن!فهو يقول لهم:لا نريد العواطف والمساعدات الجزئية،بينما أبناء الجنوب يقفون على خط النار،ويشعرون أن مستقبلهم ومستقبل أبنائهم معرض للاعتداء والمخاطر،”إن هذا ظلم فاضح،وتبغيض خطير،إنه الاستسلام للقضاء بصورة تدريجية،والموت بالأقساط…”.إنها رسالة حاضرة ومتوهّجة بالنبل وحرية الموقف المقاوم،وهي تنطق بأحداث اليوم،وتعبر عنها،ألا ترون كيف أن الناس يقتلون على طرق الجنوب،وتحرق أرضهم،وتجرّف بيوتهم!فهل هذا يحتاج إلى زيارات العواطف،ودبلوماسية المواقف،وتصريحات الزواحف،!؟أم أنه بحاجة إلى مضاعفة المسؤولية ودعم المقاومة،والاستمرار بنهج المواجهة،طالما أن هذا النهج قد أثبت فاعليته في تحرير الأرض،والدفاع عن لبنان!؟

إن ما سمعناه ولا زلنا نسمعه من تصريحات خاوية،فهو إن دل على شيء،فإنه يدل على أن بعض المسؤولين يتصرفون بدافع تصدير المواقف إليهم،بخلاف ما يزعمونه من تصدير للثورة إلى لبنان،كما يزعمون.! فإذا لم تكن لهم إرادة الموقف،وخبرة التجربة،وصدقية الالتزام مع الله والناس،فليخرجوا من مواقعهم على أمل أن تكون لهم المغفرة لما نطقوا به من كلام،وتهاونوا به من مسؤولية!؟
بقلم “أ.د.فرح موسى” رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية في لبنان

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل