يسعى الإسلام السياسي في فكر الإمام خامنئي إلى مجتمع قوي، نشط، حرّ في الفكر والرأي، هاد، عادل، أخلاقي، تطوري، متخصص، وقانوني، يستفيد من السلوك العلمي في إدارة شؤونه.
قام الدكتور “رحمت عباس تبار مقري” (أستاذ مشارك في العلوم السياسية بجامعة مازندران) و”عباد الله أختري” (طالب دكتوراه في العلاقات الدولية بجامعة مازندران) في مذكرة تحليلية بدراسة خصائص الإسلام السياسي في فكر قائد الثورة الإسلامية الإمام خامنئي-حفظه الله-.
وفيما يلي نص هذه المذكرة:
المقدمة
يُنشئ الإسلام السياسي كنموذج مفاهيمي، صلة عميقة بين الدين والسياسة، ويسعى إلى تشكيل حكومة قائمة على المبادئ الإسلامية. كما أن الإسلام السياسي والأصولية الإسلامية مفهومان مختلفان، لكنهما يُخطئان أحيانًا في اعتبارهما مترادفين.
فبينما يُعرّف الإسلام السياسي بأنه خطاب حديث ومرن في ربط الدين بالسياسة، تُعدّ الأصولية الإسلامية نهجًا جامدا يطمح إلى العودة إلى السلفية. وقد تجسّد خطاب الإسلام السياسي، المُعارض للديمقراطية الليبرالية والاشتراكية، في إيران كتجربة ناجحة.
يستند الإسلام السياسي إلى تاريخ الفكر السياسي الإسلامي، وينظر إلى نوع من الحكم الحديث كرد فعل على المشاريع الاستعمارية والاستشراقية، إلى جانب ردود الفعل القومية وما بعد الاستعمارية المختلفة التي فُرضت على المجتمعات الإسلامية.
يتصرف الإسلام السياسي بانتقائية في علاقته بالغرب، وينخرط فيه وفقًا للمصالح والخلفيات الثقافية والأيديولوجية، والقضايا الاجتماعية والاقتصادية، ويخدم المصالح الوطنية. ويتسم هذا الانتقاء بطابع محلي، ويتبنى عناصر هذه الحضارة، ويشكل جزءًا من استمرارية الثقافة الإسلامية.
إن الإسلام السياسي مقال مرن ودائم، يظهر في ظل الديناميكيات السياسية-الدينية، بالإضافة إلى الظروف التاريخية والاجتماعية. ويقدم سماحة آية الله خامنئي (حفظه الله)، بصفته قائدا للجمهورية الإسلامية الإيرانية، الإسلام السياسي ليس فقط كنظام حكم، بل كنموذج للتقدم المستدام والشامل. ويُعدُّ مدخل قائد الثورة الإسلامية إلى عوالم الوجود رؤية عالمية توحيدية، وتجنبا للانتقاء. ويختلف نقاء فكره الديني ومعالجته للقضايا السياسية الكبرى عن غيره من المفكرين الإسلاميين في مجال الإسلام السياسي.
تُعدّ أسس الإسلام السياسي أهم وثيقة للتوحيد في السياسة والحكم، حيث يُمكن للمرء أن يرى ويفحص بوضوحٍ طريقة النظر إلى الإنسان والمجتمع والسياسة والثقافة والاقتصاد والمُثُل العليا، استنادًا إلى المبادئ والأسس الدينية.
مع هذه المقدمة، تتناول هذه المذكرة التحليلية خصوصيات الإسلام السياسي في فكر قائد الثورة الإسلامية.
١. الإسلام السياسي كأيديولوجيا
يُعدّ الإسلام السياسي في فكر آية الله خامنئي (حفظه الله) أيديولوجية شاملة تُعنى بجميع جوانب الحياة الإنسانية، بما في ذلك السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع. وعلى عكس الإسلام التقليدي، الذي يُركّز أكثر على المسائل الفردية والدينية، يسعى الإسلام السياسي إلى إقامة نظام حكم قائم على الشريعة الإسلامية.
وبفضل قابليته الكبيرة للتفسير، يمتلك الإسلام السياسي القدرة على تقديم فهم ديمقراطي له من خلال عملية إعادة تفسير النصوص المقدسة. وعلى عكس الإسلاميين السابقين الذين كانوا متدينين بطبيعتهم، يتمتع الإسلام السياسي بطابع سياسي، ويسعى إلى القضاء على الهيمنة الغربية السياسية والاقتصادية والثقافية. ويسعى هذا النموذج، من خلال توظيف مفاهيم مثل العدالة والحرية والوحدة والديمقراطية الدينية، إلى توفير نموذج مناسب لحكم المجتمع. ومن أهم سماته ما يلي:
أ) الانتشار: أي أنه (الإسلام السياسي) يمتلك القدرة على النمو ليس فقط في المجتمعات الإسلامية، بل يمكن أن يجد أيضًا تجسيدًا ناجحًا في دول أخرى.
ب) الاستمرارية: أي أنه (الإسلام السياسي) نشأ في تطوره خلال فترة تاريخية محددة، وساهم في تشكيل العمليات السياسية والاجتماعية؛ بينما لم تستمر الحركات الأصولية إلا لفترة وجيزة، ولم تنجح في طرح شكل نظام سياسي وتشكيل مساراته.
ج) لها دلالة مركزية، وهي أيديولوجية قوية وموحدة وأساسية لبناء نظام سياسي.
٢. السيادة الشعبية الدينية: القلب النابض للإسلام السياسي
تُعدّ السيادة الشعبية الدينية من أهم ركائز الإسلام السياسي في فكر آية الله خامنئي (حفظه الله)، ويعني هذا المفهوم مشاركة الشعب في تقرير مصيره السياسي في إطار الشريعة الإسلامية. وبخلاف الديمقراطية الغربية التي تتمحور حول مصالح الرأسماليين، تتشكل الديمقراطية الدينية على أساس القيم الإلهية والعدالة الاجتماعية. ومن رموزها المشاركة الشعبية المستمرة في الانتخابات ومراقبة أداء المسؤولين، ووجود مؤسسات مستقلة مثل مجلس الشورى الإسلامي، وعلاقة وطيدة بين الشعب والمسؤولين قائمة على عنصري الثقة والمساءلة.
وللسيادة الشعبية أيضًا مبادئ تشمل:
الف) الفضيلة: نظام قائم على الأخلاق والروحانية.
ب) التوجيه: تُحدد التوجهات السياسية والاجتماعية بناءً على القرآن والسنة.
ج) الجدارة: تُوكل الحكومة إلى أفراد صالحين وملتزمين.
د) الواجب: مشاركة الشعب ليست حقًا فحسب، بل واجبًا دينيًا أيضًا.
3. القومية
لا يُعارض الدين الإسلامي الوطنية والعرق والجنسية، ولكنه يتعارض مع مركزية العرق والجنسية والإثنيات. عندما تجد القومية جذورًا عرقية وتتماشى معها، فإنها تُنشئ أنظمة مثل النازية والفاشية الصهيونية. ولطالما استخدم المستعمرون سلاح القومية وإثارة المشاعر القومية، مثل القومية التركية والقومية العربية والقومية الإيرانية، لإثارة الفتنة بين الدول الإسلامية.
لذلك، لا يُثير هذا التفكير اهتمام آية الله خامنئي، ولا يتناسب مع خصوصيات إسلامه السياسي. فالإسلام لا يُلغي الأمم القائمة، بل يُعرّفها، ويُقيّم قيمها، ويُرسي نوعًا من النظام والتسلسل في التواصل. وبالنظر إلى هيمنة الإسلام السياسي في خطاب قداسة آية الله خامنئي (حفظه الله)، يُمكن فهم القومية على أنها الهوية الإسلامية الإيرانية.
إن هدف التكوين للجمهورية الإسلامية هو ترسيخ السيادة الإلهية، ويُعدّ مفهوم الأمة والحدود العقائدية أهمّ ما يميز خطاب الإسلام السياسي عن غيره من الخطابات. فالدين، كأحد مظاهر الهوية الوطنية، لا يتعارض مع الوطنية في نظرهم، بل يُعدّ من الركائز الأساسية للثقافة والهوية الوطنية، وأي عامل يُضعف هذا الأساس يكون مُتعارضًا مع الكرامة الوطنية والفخر الوطني وسعادة الأمة.
4. النظام السياسي المرغوب فيه
إن العدالة في فكر آية الله خامنئي (حفظه الله) تعني منح كل فرد حقوقه بناءً على استحقاقاته. ولا يقتصر هذا المفهوم على المجال الاقتصادي فحسب، بل يشمل جميع المجالات الاجتماعية والثقافية والسياسية. وتتحقق العدالة الاجتماعية بتقليص الفوارق الطبقية وتوفير فرص متكافئة لجميع أفراد المجتمع.
ومن مؤشرات العدالة التوزيع العادل للثروات والفرص، ومكافحة الفساد والتمييز، وضمان الأمن العام والرفاهية. والمجتمع الإسلامي هو مجتمع يكتسب فيه أفراده القدرة على التفكير، ويملكون القدرة على اتخاذ القرارات واختياراتها بأنفسهم. مجتمع يخلو من التمييز والظلم، ويرتكز على العدل.
بلغ العالم في مجتمع الإسلام المثالي، كمالاً نسبياً. ومن وجهة نظر آية الله خامنئي، يتميز المجتمع الإسلامي بالقوة، الحيوية، التحرر من الأفكار والآراء، التوجيه، العدالة، الأخلاق، التطور، التخصص، التوجه القانوني، ويعتمد على السلوك العلمي في إدارة شؤونه.
5. الوحدة الإسلامية؛ ضرورة العالم الإسلامي
يدعو آية الله خامنئي (حفظه الله) الجميع إلى التكاتف حول القواسم المشتركة، آخذين في الاعتبار حقيقة تعدد المذاهب والفرق الإسلامية. ومن مشاكل العالم الإسلامي التي استغلتها الأنظمة المهيمنة، وخاصةً الولايات المتحدة، وتسببت في صراعات عديدة في الدول الإسلامية، مسألة عدم التقارب بين المذاهب الإسلامية.
لذلك، يُعدّ التوحيد من أهم العوامل في مفهوم الإسلام السياسي، وهو ما يُؤكد عليه دائمًا في تصريحاته. ومن أهم آيات القرآن الكريم التي يُعتمد عليها، والتي يُحيي بها مبدأ الوحدة ويُبرزها، الآية الكريمة: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾.
لذلك، يجب اعتبار هذا العامل من أهم القواسم المشتركة، ألا وهو الأوامر الإلهية. القرآن الكريم وسنة النبي (ص)، والعدو المشترك (الاستكبار العالمي)، قضية تحرير القدس، ونصرة المظلومين، من بين عوامل التوحيد.
الاستنتاج
يمكن اعتبار مجموعة هموم وتأملات آية الله خامنئي (حفظه الله) بعد بدء نشاطه السياسي خطابًا تبلور استجابةً للوضع الراهن في البلاد وما طرأت عليه من تطورات وقضايا وشكوك. وستحافظ الحلول والمقترحات المقدمة على جوهر الإسلام السياسي وكينونته وهويته، وتضمن استمراره. ويُعدّ إعطاء معنى للمفاهيم البنّاءة ذات الطابع الخطابي أحد محاور اهتمام آية الله خامنئي.
فعندما تُعطي الحركات السياسية معنى لكلمة ما لأغراضها الخاصة، يبرز آية الله خامنئي ويحاول تغيير التشوهات لصالح الإسلام السياسي. على سبيل المثال، وخلافا للتشوهات المتعلقة بكلمة “الإصلاحات”، التي يُفسّرها البعض على أنها تعني ما يريده الناس، يُفسّر آية الله خامنئي الإصلاحات على أنها سبل مكافحة الفقر والفساد والتمييز.
وبتعريفٍ مُبسّطٍ للنموذج المفاهيمي للإسلام السياسي من وجهة نظر آية الله خامنئي (حفظه الله)، يُمكن القول إنّ الإسلام السياسي، من وجهة نظره، هو منظومةٌ من المعاني والمفاهيم ذات تماسكٍ داخليّ، تُستخدم لفهم القضايا الراهنة، ويُنظر إليها من منظورين:
أ) الخطاب البنّاء:
يسعى الخطاب إلى قضيةٍ مُهيمنة، وفي هذه الحالة، تُحدّد الأشكال المُهيمنة المعنى والسلوك. وفي ظلّ التفوق الخطابي، يلعب البشر أدوارًا في مواقف مُختلفة. ويُمكن الاستنتاج أنّه عندما تُصبح قضيةٌ خطابًا، يُمكنها شرح منطقها لمختلف الفاعلين والفاعلين الاجتماعيين، وفي هذه الحالة، تُصبح القضية الخطابية قضيةً عامة، وقد أسّس الإسلام السياسي هذه المهمة الخاصة في المجتمعات الإسلامية.
ب) الهوية:
يسعى الخطاب البنّاء إلى منح هويةٍ للفاعلين واللاعبين في النظام من خلال خلق الاختلاف. وهذا التماهي منطقيٌّ في المواجهة أو التفاعل مع الهويات الأخرى، لأنّ الخطابات حرّةٌ وليست لها هويةٌ ثابتة. وبمعنى آخر، يتناول الموضوع الخطابي، من خلال إبراز الآخر، تحديد المجموعات وتكاملها، كما يحد من ظهور الخطابات المتنافسة ويرفضها.
على عكس خطابات الديمقراطية الليبرالية والاشتراكية، يُبرز الإسلام السياسي نقاط أهميته ونقاط قوته، وبينما يُظهر عيوب الخطابات المتنافسة، يسعى إلى رفض الخطابات الأخرى والهيمنة على خطابه.
في نهاية المطاف، لا بد من القول إن الإسلام السياسي في فكر آية الله خامنئي (حفظه الله) خطاب حيّ وديناميكي يسعى إلى بناء مجتمع قائم على القيم الإسلامية. ويرى أن السيادة الشعبية الدينية، ولاية الفقيه، مناهضة الاستكبار، العدالة الاجتماعية، والوحدة الإسلامية من أهم ركائز الإسلام السياسي لدى سماحته، ويمكن أن يكون هذا الفكر ذا معنى وإلهام ليس فقط لإيران، بل للعالم الإسلامي أجمع. وقد أثبتت تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن الإسلام السياسي قادر على التكيف مع متطلبات العالم المعاصر، مع الحفاظ على المبادئ الدينية وتقديم نموذج مناسب للحكم الإسلامي.