مَنْ أَحَدَّ سِنانَ الْغَضَبِ لِلّهِ قَوِيَ عَلى أَشَدِّ الْبَاطِلِ

مَنْ أَحَدَّ سِنانَ الْغَضَبِ لِلّهِ قَوِيَ عَلى أَشَدِّ الْبَاطِلِ

إن الذي يغضب لله ولعباده وكرامتهم وحقوقهم، وينهض للقيام بما يمليه عليه ضميره الأخلاقي والديني والإنسان، يؤيِّده الله، ويهيئ له ما يعجز عنه من أسباب، ويحيطه بعنايته، ويمده بمدد غيبي، ويعطيه من القوة والقدرة ما لم يكن في حسبانه، ولا بد وأن ينتصر في نهاية المطاف.

 رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “مَنْ أَحَدَّ سِنانَ الْغَضَبِ لِلّهِ قَوِيَ عَلى أَشَدِّ الْبَاطِلِ”.
أكثر من مرة نشرت مقالات عن الغضب، وقد عالجت الأمر من زوايا عديدة، تحدثت فيها عن مناشئه والأسباب التي تدعو إليه، وأنه كغيره من الغرائز التي أودعها الله في الإنسان لغايات محمودة، وعن مخاطره وعواقبه إذا خرج عن طوره الطبيعي، فهو كما كل الغرائز يجب أن يتحكّم به الإنسان، ويوجِّهه بالاتجاهات المحمودة وإلا صار مدمِّراً، ومن هذه الاتجاهات أن يكون الغضب لله، ولمحارمه، ولعباده، ولخلقه، وأن يكون غضباً للحق، والعدل، وغضباً في وجه الباطل، والظلم والجور، فهذا القسم من الغضب ليس محموداً وحسب بل واجب أخلاقي وديني وإنساني، وطاعة وقربة إلى الله تعالى.

الغضب لله ولدينه وللمظلومين، هو سُنّة الأنبياء، وسيرة الأوصياء، وواجب المؤمن الغيور، ألم يغضب النبي (ص) حين رأى الأصنام تُعبَد من دون الله، وقيم الجاهلة الأولى تسود بدل قيم السماء، وحين رأى المولودة توأد، والعصبية القبلية تتحكَّم في العقول، والقبيلة تغزو القبيلة، والمَظلوم لا يُنصَر، والحُرُماتُ تُنتَهك، والزنا يفشو، والرِّبا يُتَعامَل معه تعامل البيع والشراء؟ بل كما رُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين (ع) يصف رسول الله (ص) فيقول: “كانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ لا يَغضَبُ للدنيا، فإذا أغضَبَهُ الحقُّ لَم يَعرِفْهُ أحَدٌ ولم يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَي‏ءٌ حتّى‏ يَنتَصِرَ لَهُ”.

ألم يغضب أمير المؤمنين علي (ع) حين رأى الحق يُغتصَب، والسُّنَّة تُبَدَّل، وحديث النبي (ص) يُمنَعُ نشره؟ وها هو (ع) يخاطب أصحابه ويخاطبنا أيضاً قائلاً: “وَقَدْ بَلَغْتُمْ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكُمْ مَنْزِلَةً تُكْرَمُ بِهَا إِمَاؤُكُمْ، وَتُوصَلُ بِهَا جِيرَانُكُمْ، وَيُعَظِّمُكُمْ مَنْ لَا فَضْلَ لَكُمْ عَلَيْهِ، وَلَا يَدَ لَكُمْ عِنْدَهُ، وَيَهَابُكُمْ مَنْ لَا يَخَافُ لَكُمْ سَطْوَةً، وَلَا لَكُمْ عَلَيْهِ إِمْرَةٌ، وَقَدْ تَرَوْنَ عُهُودَ اللَّهِ مَنْقُوضَةً فَلَا تَغْضَبُونَ، وَأَنْتُمْ لِنَقْضِ ذِمَمِ آبَائِكُمْ تَأْنَفُونَ، وَكَانَتْ أُمُورُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تَرِدُ وَعَنْكُمْ تَصْدُرُ وَإِلَيْكُمْ تَرْجِعُ، فَمَكَّنْتُمُ الظَّلَمَةَ مِنْ مَنْزِلَتِكُمْ وَأَلْقَيْتُمْ إِلَيْهِمْ أَزِمَّتَكُمْ، وَأَسْلَمْتُمْ أُمُورَ اللَّهِ فِي أَيْدِيهِمْ، يَعْمَلُونَ بِالشُّبُهَاتِ وَيَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ، وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْ فَرَّقُوكُمْ تَحْتَ كُلِّ كَوْكَبٍ لَجَمَعَكُمُ اللَّهُ لِشَرِّ يَوْمٍ لَهُمْ‏”.
ألم يغضب الإمام الحسين (ع) حين رأى الأمة تُقاد من قبل فاسق فاجر، والحدود تُعطَّل، والفيء يُقسَّم على الأقرباء والمعارف والمحازبين، والصُّلَحاءُ يُقتَلون؟ فها هو يخطب في الناس قائلاً: “أَلاَ تَرَوْنَ إِلَى اَلْحَقِّ لاَ يُعْمَلُ بِهِ، وَإِلَى اَلْبَاطِلِ لاَ يُتَنَاهَى عَنْهُ؟! لِيَرْغَبِ اَلْمُؤْمِنُ فِي لِقَاءِ رَبِّهِ حَقّاً حَقّاً، فَإِنِّي لاَ أَرَى اَلْمَوْتَ إِلاَّ سَعَادَةً وَاَلْحَيَاةَ مَعَ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ بَرَماً”.
ذلك الغضب لم يكن لهوى النفس، ولا لمطمع دنيوي، بل كان لله، وكان للإصلاح، وكان نصرةً للمظلوم، لقد كان غضباً واجباً ومقدَّساً، والغضب المُقَدَّس هو أن تتحرك مشاعرك حين ترى الحرام يُعلن، والفساد ينتشر، والحق يُمنَع، والمظلوم يُسحق، فالغضب في سبيل الله لا يعني الانفلات، بل يعني الوقوف بوجه الظلم، بكلمة، أو بموقف، أو بتضحية، فلا خير في أمة لا تغضب لكرامتها، ولا تنتصر لمظلومها، ولا ترفض الباطل.

إن الذي لا يغضب لحرمات الله وللمظلومين والمستضعفين والمضطهدين يتردّى من منزلة الإنسانية، بل ومن منزلة الحيوانية إلى أن يكون مجرد شيء، شيء كالصخر الجلمود، فهذا وحده لا يتأثر بما يحدث من ظلم، ولا يتعاطف مع المظلوم، ولا يغضب لما يُنتَهَك من كرامة الإنسان.
فأما الذي يغضب لله ولعباده وكرامتهم وحقوقهم، وينهض للقيام بما يمليه عليه ضميره الأخلاقي والديني والإنسان، يؤيِّده الله، ويهيئ له ما يعجز عنه من أسباب، ويحيطه بعنايته، ويمده بمدد غيبي، ويعطيه من القوة والقدرة ما لم يكن في حسبانه، ولا بد وأن ينتصر في نهاية المطاف.
في هذا السياق يجيء قول الإمام أمير المؤمنين (ع): “مَنْ أَحَدَّ سِنانَ الْغَضَبِ لِلّهِ قَوِيَ عَلى أَشَدِّ الْبَاطِلِ” وذلك أن الغضب شعور فطري، وتوجيهه لله يجعل منه طاقة روحية ومعنوية هائلة يمكنه بها أن يقضَّ مضاجع الطغاة والظالمين، ويسقِطَ مشاريعهم، ويُبطل مكائدهم، وبهذا يتحوّل غضب المؤمن إلى سُلَّمٍ يوصله إلى أقوى مستويات القوة أمام الباطل، محققاً وعد الحق بأن النصر لمن أَحَدَّ سِنانه لله.
بقلم الکاتب والباحث اللبنانی فی الشؤون الدينية السيد بلال وهبي

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل