إن السؤال عن الكوثر، وما إذا كان مشتملاً على غير ذرية الرسول(ص)، وما خصّ به من كوثر الجنة هو ما ينبغي التركيز عليه، والإجابة عنه في ضوء منظومة الإيتاء والإعطاء القرآنية.
ويسأل بعض الإخوة الأفاضل عما إذا كان ممكنًا إيجاز الموقف بخصوص معجزة الكوثر، وما تفيده حقيقة المقابلة بين الكوثر والأبتر.
فالإخوة يرون أنه لا فرق بين أن يؤتى رسول الله(ص) الكوثر أو يعطى، طالما أن الكوثر لرسول الله(ص) مطلقًا! وقد ارتأينا أن تكون الإجابة وفق معالجة أكثر وضوحًا بحيث تكون الإجابة على الأسئلة وفق ما أسميناه بانتظام الرؤية القرآنية، لما لهذه الرؤية من حاكمية في فهم مدلولات النصوص في سياقاتها المختلفة.
فنقول الآتي: لاشك في أنه يبقى من شروط أي منهج تفسيري استخلاص الموقف القرآني في إطار ما اختاره القرآن الكريم لنفسه من انتظام بعيدًا عن مماحكات أهل اللغة وما يستثنونه من وجوه ونظائر القرآن في تفسير مفرداته، وهذا ما ينبغي استيعابه جيدًا،قرآنيًا، قبل استحضار الروايات وما تفيده في مجالي التفسير والتأويل.
فالسؤال عن الكوثر، وما إذا كان مشتملًا على غير ذرية الرسول(ص)، وما خصّ به من كوثر الجنة، هو ما ينبغي التركيز عليه، والإجابة عنه في ضوء منظومة الإيتاء والإعطاء القرآنية. لقد رأينا في مقالتنا السابقة أن الإيتاء أقوى وأعم من الإعطاء، ولهما معنى متقارب ومشترك، وهو أخذ الشيء،و لكن لكل منهما أخذه بحسب مرادات الله تعالى في ما يمن به على عباده أو يعطيه هبةً أو إعطاءً لقاء جهد أو طلب،كما كان للنبي سليمان(ع) حين طلب من ربه ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده!
فالإيتاء جاء في مئات الآيات القرآنية، وقد استعمل في الحكمة، والرحمة، والرشد والعذاب، والهبة، والإعطاء، والأموال دونما تمييز بين ما هو مادي أو معنوي، يقول أهل اللغة والبيان: “ورد الفعل”آتى” بصيغه الثلاث الماضي والحاضر والأمر في القرآن متعدّيًا لمفعولين ليس أصلهما مبتدأ وخبرًا في 273 موضعًا، وهو يتضمن معاني متعددة بحسب ما يقتضيه السياق، فهو جاء بمعنى الإعطاء والهبة، ثم معنى التلقين، والتبصي، والتزوّد، والتسوّد، والتحصيل…”،وغير ذلك من المعاني التي تمنع من تفسير الإيتاء بالإعطاء كما فعل الراغب الأصفهاني في مفرداته!؟
إذن، عمارة البناء لهذه المفردة “آتي” جاء من معانيها الإعطاء، ومنه قوله تعالى: “إنا أعطيناك الكوثر” لأنه مورود في الموقف، ومتدّرج فيه، والرسول(ص) قريب إلى منازل العز في الجنة، فعبّر فيه بلفظ الإعطاء، لأنه يترك عن قريب، وينتقل إلى ما هو أعظم منه، ومن ذلك أيضًا قوله تعالى:“ولسوف يعطيك ربك فترضى…”، وذلك لما فيه من تكرير الإعطاء والزيادة…
ويقول علماء البيان ممن تخصّصوا بالإعجاز البياني: “في الإعطاء دليل التملّك دون الإيتاء، وهذا ما عقّب عليه “أبو هلال العسكري” في فروقه اللغوية، قائلًا: “ويؤيده قوله تعالى:“إنا أعطيناك الكوثر…”،فإنه كان لرسول الله(ص) منع من شاء من هذا الكوثر،كالمالك للملك. وأما القرآن، فحيث أن أمته مشاركون له في فوائده، ولم يكن له منعهم منه، قال الله تعالى:“ولقد آتيناك سبعًا من المثاني والقرآن العظيم.”.وانطلاقًا من ذلك، فإن ما ذهبنا إليه في بحثنا السابق، ينبني على ما تفيده آيات الإيتاء في انتظامها العام من إمكانية النزع والانسلاخ بخلاف الإعطاء الذي لم يدل القرآن على نزعه.
وهنا تكمن مصائب الأمة الإسلامية أنها استوعبت ما يعنيه الكوثر من ذرية، ومصداقها الأعظم السيدة فاطمة الزهراء(س)، وكذلك ما يعنيه من نعيم وجنة وخلود، ولكنها تجاهلت كل ذلك رهانًا منها على الإيتاء ظنًا منها أنها تملك خيار الفوز بمجرد الإيمان والعمل الصالح! وكانت النتيجة الانسلاخ من كل خير وعطاء، لأن ما تعيشه الأمة اليوم، وما تقلّبت فيه من تجارب دينية وسياسية، لا يدل على أنها قد فازت بأي عطاء لا من كوثر الدنيا، ولا من كوثر الآخرة لأن الإيتاء هو أيضاً كان مثار هجرة وغربة للأمة في تاريخها،وهي لا تزال تعاني من غربتها عن الإيتاء والإعطاء معاً!
وإذا كان الرهان للفوز على الجنة والكوثر الذي تفيده الآية المباركة، فإن الخشية والخوف الكبير يبقى قائماً من أن تمنع هذه الأمة من الحوض والكوثر، لكونه ملكًا لرسول الله(ص) وذريته والتابعين له بإحسان. نعم، لقد أجمع أهل التفسير في الأرض والسماء على أن الكوثر هو الجنة ونعيمها، فماذا لو حال محمد(ص) وذريته دون عطائه والدخول في ملكه!؟
فإذا كان الناس يعلمون ذلك، فلمَ لم يبادروا إلى هذا الكوثر، ويمنعوا كل أبتر من أن ينال من رسول الله(ص) وذريته!؟ فيا عجبي من أمة تراهن على عطاء ربها، وهي لما تحسن إلى ما خصّها به عطاء وكوثر في ما اختارته من انقلابات وانقسامات على خلاف ما أمرت به ونهيت عنه، وكأنها لم تسمع بتحذير ربها: “فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو عذاب أليم..”
هذا هو ما يفيده الانتظام القرآني،مفردة، وسياقًا، وأسباب نزول أن الإيتاء قابل للانسلاخ، وليس لأحد أن يمنع منه لكونه فضلًا إلهيًا يؤتيه الله من يشاء من عباده.وأما الإعطاء،فهو لرسول الله محمد(ص) وله أن يمنع منه سواء في عالم التشريع أو في عالم التكوين.
إنه إعطاء غير قابل للنزع والانسلاخ، وذرية الرسول(ص) هي من هذا الإعطاء في مقابل من زعم أن الرسول(ص) أبتر لا ذرية له.! ويبقى السؤال، ماذا فعلت الأمة لكي تكون شريكةً في هذا الكوثر بما هو خير مطلق في الدنيا والآخرة؟ وهل يمكن لها أن تستعيض عنه بشيء للنجاة من مصائبها؟ فالأمة،كما نراها قديمًا وحديثًا، هجرت الإيتاء والإعطاء معاً، فلا هي أخذت بالقرآن وعملت به! ولا هي استفادت مما خصّت به من عطاءات ربها، فآل أمرها إلى أن تكون مجددًا على شر دين، وفي شر دار في ما انتهت إليه من جاهلية حديثة في الدين والدنيا!
وهذا ما نرى فيه أعظم المصائب لأمة أريد لها أن تكون خير أمة، فإذا بها تخسر كل مقومات وجودها! كأن لا نبيًا جاء،ولا وحيًا نزل! لقد تجاهلت الأمة حقيقة ومعنى أن مَن يصح منه الإيتاء، يصح له الإعطاء بفضل الله ومنه العظيم.
بقلم أ.د.فرح موسى: رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية في لبنان