قد حثَّ الإسلام على النُصح والنصيحة، وبلغ بها مقاماً سامياً حين أسبغها على الدين كُلِّه، واعتبر أن جوهر الدين هو النُّصح والإرشاد والإخلاص.
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “مَنْ أَعْرَضَ عَنْ نَصيحةِ النّاصِحِ أُحْرِقَ بِمَكيدَةِ الْكاشِحِ”.
في هذه الجوهرة الكريمة يكشف الإمام أمير المؤمنين (ع) عن معادلة مهمَّة تبين موقف الإنسان من النصيحة، وتكشف عن آثار الإعراض عنها، وما يترتب على ذلك من تسلُّط أهل الشَّرِّ والمكر والخديعة على المُعْرِض.
قبل الخوض في شرح هذه المعادلة، لا بُدّ من بيان معنى بعض الكلمات التي جاءت فيها، لأنها تمثل مفتاحاً مهماً للوقوف على معناها الكلي.
الإعراض: فمعناه الانصراف والتوّلّي والابتعاد عن الشيء، كالإعراض عن نصيحة الناصح، أو الإعراض عن دعوة الداعي والهادي والمرشد، وقد استعمل القرآن الكريم هذه المفردة بهذا المعنى، من ذلك قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ…﴿الأنعام:68﴾.
وقوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴿الأعراف:199﴾.
وقوله تعالى: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ﴿الإسراء:83﴾.
وقوله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ﴿طه:124﴾.
النصيحة من النُّصح: وهو إخلاص القول والعمل والمَودَّة، والإرشاد إلى ما فيه صلاح المنصوح، ففي النصيحة إخلاص وإرادة خير للغير، وتقديم المشورة الصادقة.
أُحرِق: كناية عن شدة الضرر، وكأنّه وقع في نارٍ أحرقتْه.
بمكيدة الكاشح: الكاشح هو العدو الماكر، الذي يضمر الشرَّ، فيُظهِر المودة ويُخفي العداوة، والمَكيدة هي الحيلة والمكر الخفي لإلحاق الأذى.
بالرجوع إلى جوهرة الإمام (ع): “مَنْ أَعْرَضَ عَنْ نَصيحةِ النّاصِحِ أُحْرِقَ بِمَكيدَةِ الْكاشِحِ” نراه يبين فيها معادلة مفادها: أن من لم يصغِ إلى النصيحة الصادقة، ولم يستجب لتوجيه المخلصين، فإنه يعرِّض نفسه حتماً لضرر من يتربَّص به شراً من الأعداء الماكرين المتخفيّن، فالعاقل لا يستغني عن النصيحة، لأنّ فيها نجاته، بينما الغافل الذي يزهد فيها يُبتلى بمكر الأعداء، فيقع فيما لا تُحمَد عقباه.
ولقد حثَّ الإسلام على النُصح والنصيحة، وبلغ بها مقاماً سامياً حين أسبغها على الدين كُلِّه، واعتبر أن جوهر الدين هو النُّصح والإرشاد والإخلاص، فقد رُوِيَ عن رسول الله (ص) أنه قال: “إِنَّ الدِّيْنَ النَّصِيْحَةُ. قالوا: لِمَنْ يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: للهِ ولِكِتابِهِ ولِرَسُولِهِ ولِأَئِمَّةِ المُسْلِمِيْنَ وعَامَّتِهِمْ” فالنصيحة وسيلة للإرشاد إلى الخير، وتصحيح الأخطاء، وتسديد العمل والقرارات، وهي من مقومات قوَّة المجتمع وتماسكه وتعاونه وسلامته وتطوُّره.
الدين قارئي الكريم يدعو إلى نُصح الآخرين، ويدعو إلى قبول النصيحة منهم، إذ لا قيمة للتدين إذا لم يكن المَرء ناصحاً مخلصاً يرجو الخير للناس ويرشدهم إليه، ويتجنَّب الشَّرَّ ويدفعه عنهم، ولا قيمة أيضاً للنصيحة إذا لم تُقبَل، لهذا يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): “اسْمَعوا النَّصِيْحَةَ مِمَّنْ أَهْداها إلَيْكُم، واعْقِلوها على أَنْفُسِكُم”
وفي حديث آخر يشير الإمام (ع) إلى ذات المضمون الذي حملته المعادلة التي بين أيدينا، وهو أن الذي لا يقبل نصيحة الناصح المحب المشفق، يجعله فريسة للحاقدين الغشَّاشين الماكرين، وهيَّأ لهم فرصة للإضرار به، يقول (ع): “مَنْ عَصَى نَصِيْحَهُ نَصَرَ ضِدَّهُ”.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي