إن النوم عن النُّصرة يعني الغفلة عن اللحظة الراهنة، وعن الموقف الواجب فيها، هو تعبير عن التكاسل، والتثاقل، والخنوع، والاستسلام، وإيثار السلامة والدَّعة، وهو صورة من صور اللامبالاة حين يكون الحق في خطر محدق.
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: *“مَنْ نامَ عَنْ نُصْرَةِ وَلِيِّه انْتَبَهَ بِوَطْأَةِ عَدُوِّهِ”.
معادلة أخرى يكشفها لنا الإمام أمير المؤمنين (ع)، تنبهنا من نوم الغفلة عن نُصرة عباد الله وأوليائه، وتعلن النفير قبل حدوث الأمر الخطير، يوم لا ينفع ندم، وتذهب فرص الاستدراك، وتحثُّنا على التأمُّل في حال من سبقنا من الأجيال، والاعتبار مما حدث لهم حين نهض بعضهم إلى نُصرة عباد الله وأوليائه، وحين نام بعضهم الآخر عن ذلك، وآثر الحياد، أو اللامبالاة، أو النجاة الشخصية، أو تمسَّك بالمصالح الظرفية، أو التقدير الخاطئ للأمور، أو القبول بالواقع والتآلف معه، وتكشف بهذا عن حقيقة كبرى في مسار المجتمعات وتحولاتها.
إنها صرخة استنهاض علوية كريمة تحذِّرنا من القعود عن واحد من أهم الواجبات الدينية والأخلاقية والإنسانية، وتلخِّص في الوقت ذاته مأساة الغافلين المتكاسلين المتثاقلين، والمعوِّقين والمثبِّطين، وترينا كيف تكون الخيانة بذلك، بالغفلة، والسكوت، والخِذلان، والقعود مع القاعدين، والتخلُّف عن الرَّكب، وما ينتج عن ذلك من عواقب خطيرة لا يمكن تلافيها، ونتائج قاتلة لا يمكن تعويضها.
إنها رسالة عابرة للكل الأجيال، ونداء لكل مجتمع وجماعة وأمّة ألّا يغفلوا عن نُصرة أولياء الله وعباده الصالحين، ففي كلّ عصر، هناك “وليّ” يُمثّل خطّ الحق، وهناك “عدوّ” يمثِّل خطّ الباطل ويتربّص بأهل الحق، وينتظر الفرصة السانحة لينقضَّ عليهم، وهناك جمهور تتأرجح مواقفه بين النُّصرة والتخاذل، بين المبادرة وعدم المبادرة، بين أن يكون المرء معنياً بما يجري من صراع وبين حيادٍ يقيم خلاله على التَّلِّ ينظر من الرابح لينخرط في صفوفه، والخيار في نهاية المطاف، لنا نحن: هل نكون مع الحق وأهله في اللحظة المصيرية، هل نبادر إلى نُصرتهم على عدوِّهم، أم ننتظر صفعة العدوّ لنا كي نستفيق؟.
فالحقّ بحاجة إلى وعيٍ دائم، ونصرةٍ مستمرة، وإلّا فإن الذين لا يتحركون لنصرته ستُدهَسهم أقدام العدو الذي لا يرحم، ولا يرعى إلّاً ولا ذِمَّة، ويكون الاستيقاظ حينها متأخِّراً، مرّاً، قاسياً، صاخباً، وذا طعمٍ لا يُنسى.
النوم عن النُّصرة يعني الغفلة عن اللحظة الراهنة، وعن الموقف الواجب فيها، هو تعبير عن التكاسل، والتثاقل، والخنوع، والاستسلام، وإيثار السلامة والدَّعة، وهو صورة من صور اللامبالاة حين يكون الحق في خطر محدق، والوَلِيُّ -وهو الذي يتولى أمر الأمة، ويدبِّر أمرها بالعدل والحق، ويقودها باتجاه غاياتها النبيلة الشريفة- يحتاج إلى من يسانده وينصره ويذود عنه، ويتحمَّل معه أعباء المواجهة مع الباطل، لأن الباطل إذا ما انتصر فسيأتي على القاعد المحايد كما يأتي على الناهض القائم المجاهد، وسيجني الجميع الهَوان والذُلَّ، فينتبه القاعدون المتخاذلون على وقع هزيمة مُدوِّية، ومرارة خسارة مُفجعة، وعدوٍ لا يرحمهم، ولا يفي لهم، ولا يرعى كرامة، فلا يبقى لهم إلا الندم، والحسرة، ولاتَ حينَ مندَمٍ.
هذا السيد المسيح نبي الله عيسى بن مريم (ع) المؤيِّد من السماء بالمعجزات الباهرة، كان محتاجاً إلى من يناصره في دعوته، وحركته التحرَّرية التي كانت تهدف إلى تحرير الإنسان من طواغيت نفسه وطواغيت البشر، ففي الصراع بين الحق والباطل قد تظهر الكرامات، وقد يكون مدد غيبي من الله، ولكن يحتاج أيضاً إلى جماعة متراصَّة كالبُنيان المرصوص تقف في مواجهة الباطل، وتنصر ولِيَّ أمرها ولو كان هذا الولي ربَّانياً مؤيَّداً من الله تعالى، ينقل عنه القرآن الكريم قوله: *فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿آل عمران:52﴾.
والنُّصرة لا تكون بالضرورة قتالاً في معركة عسكرية وحسب، بل هي موقف، وولاء، ودعم، وتبنٍّ للحق في وجه الباطل، والوليّ -في ضوء الفهم الإسلامي- هو مَن اجتمعت فيه شروط القيادة الربّانية، سواء أكان نبياً، أو إماماً، أو قائداً عادلاً على منهج الله ورسوله، والناس حين يغفلون عن نصرة وليّهم، فإنهم في الحقيقة يهيّؤون فرصة النصر لعدوهم، إنهم لا ينأون بأنفسهم عن الصراع، بل يُسهِمون بصمتهم في ترجيح كفّة الظالم، وإن لم يقصدو ذلك، واستيقاظهم المتأخِّر لا يُجدي نفعاً، قد يفيدهم في الانتقام وشفاء الغيظ وحسب، ولكنه لا يُعدّل المسار، ولا يسترجع ما فات، ولا يعيد المجد الضائع المتلاشي، وفي تاريخنا الإسلامي شواهد لا تُعدّ: من خذلان المسلمين للإمام أمير المؤمنين (ع) وهو أعدل وأشرف من على الأرض بعد رسول الله (ص) إلى خِذلانهم للإمام الحسين (ع)، وإن كانوا قد صحوا فيما بعد من غفلتهم على وقع المذبحة، ناحبين باكين نادمين، ولكن بعد أن انقلبت كفّة المعركة لصالح الباطل.
بقلم الباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي