أمر ابن زياد جنده بالتوجّه بسبايا آل البيت (عليهم السلام) إلى الشام، إلى الطاغية يزيد بن معاوية، وأمر أن يكبّل الإمام زين العابدين (عليه السلام) بالقيود، وأركب بنات الرسالة الإبل الهزّل تنكيلاً بهنّ، وهناك كان للسيدة زينب عليها السلام العديد من المواقف منها:
أ- أمن العدل يا ابن الطلقاء:
لمّا وصلت القافلة إلى الشام في مجلس يزيد وأظهر الطاغية فرحته الكبرى بإبادته لعترة رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخذ يهزّ أعطافه جذلاً متمنّياً حضور القتلى من أهل بيته ببدر ليريهم كيف أخذ بثأرهم من ذريّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وراح يترنّم هذه الأبيات التي مطلعها:
لَيْــــتَ أَشـــــْيَاخِي بِبَدرٍ شَـهِدُو جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِـنْ وَقْعِ الأَسَـلْ
ولمّا سمعت العقيلة هذه الأبيات ألقت خطبتها الشهيرة بفصاحة أبيها الإمام عليّ (عليه السلام) وشجاعته وقد ضمّنتها أعنّف المواقف لفرعون عصره يزيد وممّا قالته (عليها السلام):
“أَمِنَ الْعَدْلِ يَا بْنَ الطُّلَقَاءِ تَخْدِيرُكَ حَرَائِرَكَ وَإمَاءَكَ وَسُوقُكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللهِ سَبَايَا؟! قدْ هَتَكْتَ سُتورَهُنَّ، وَأَبْدَيْتَ وُجُوهَهُنَّ، تَحْدُو بِهِنَّ الأَعْدَاءُ مِنْ بَلَدِ إلى بلدٍ،.. وَيَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُنَّ الْقَرِيبُ وَالبَعِيدُ”..
ب- الدعاء على الظالم في محضره:
فقالت (عليها السلام): ...”فَكِدْ كَيْدَكَ، وَاسْعَ سَعْيَكَ، ونَاصِبْ جَهْدَكَ، فَوَاللهِ لاَ تَمْحُوَ ذِكْرَنَا، ولاَ تُمِيتُ وَحْيَنَا، وَلاَ تُدْركُ أَمَدَنَا، وَلاَ تَرْحَضُ عَنْكَ عَارَهَا”[1].
ج- اليقين والتسليم بالحقّ:
فقالت (عليها السلام) مخاطبة يزيد(لعنه الله) – مؤكّدة أنّ نهج محمد لن يمحوه أحد مهما عظمت التضحيات -: “كِدْ كَيْدَكَ، وَاسْعَ سَعْيَكَ، ونَاصِبْ جَهْدَكَ، فَوَاللهِ لاَ تَمْحُوَ ذِكْرَنَا، ولاَ تُمِيتُ وَحْيَنَا، وَلاَ تُدْركُ أَمَدَنَا، وَلاَ تَرْحَضُ عَنْكَ عَارَهَا”.
د- توبيخ يزيد الظالم في مجلسه:
حيث قالت (عليها السلام): “.. وَلَئِنْ جَرَّتْ عَلَيَّ الدَّوَاهِي مُخَاطَبَتَكَ، إِنِّي لأَسْتَصْغِرُ قَدْرَكَ، وَأَسْتَعْظِمُ تَقْرِيعَكَ، وَأَسْتَكْثِرُ تَوْبِيخَكَ، لَكِنِ الْعُيُونُ عَبْرىَ، وَالصُّدَورُ حَرّى”[2].
هـ- الظالم من حزب الشيطان:
فصرّحت (عليها السلام) قائلة: “أَلاَ فَالعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ لِقَتْلِ حِزْبِ اللهِ النُّجبَاءِ بِحِزْبِ الشَّيْطَانِ الطُّلَقَاءِ..”[3].
5- بعض ما يستنتج من خطبة زينب (عليها السلام)
أ- لقد كشفت الظنّ الزائف ليزيد بل لجميع الطغاة على مرّ التاريخ الذين يحسبون أنّ ما حقّقوه من غلبة على أعدائهم بالظلم والعدوان كرامة وقوة وعظمة، وهو في الحقيقة ضعف وخسارة، لأنّه تجاوز لحدود العقل والشرع والمنطق السليم، واستَشهدَتْ بقوله تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾[4].
ب – كشف عمق الجريمة الأمويّة في هتك حرمات العائلة النبويّة من خلال الاستعراض العامّ لحرائر آل محمد من بلد إلى بلد وهي جريمة لا تدانيها جريمة أخرى وهي سبي بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا ما لا تعرف له الإنسانيّة مثلاً في سابق عهدها.
ج – أعادت إلى الأذهان أنّ ما أقدم عليه يزيد امتداد لما أقدمت عليه جدّته هند وجدّه أبو سفيان في حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّ هذه الجريمة هي امتداد لتلك الجريمة التي أقدمت عليها جدّته حين مضغت كبد حمزة عمّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
د- أوضحت حقيقة إلهيّة أنَّ كلَّ جريمة أو فعل قبيح يقدم عليه الإنسان إنّما يضُرّ نفسه، ويحرق بها مستقبله ولهذا خاطبت يزيد قائلة عليها السلام: “فوالله ما فَريتَ إلّا جلدَك، ولا حززت إلّا لحمك”[5]، وإنّ الموت الحقيقيّ قد حلّ بك وبأضرابك وأسلافك، وإنّ الحياة الخالدة قد منحت للذين قتلتهم ومثلت بأجسادهم ورفعت رؤوسهم على الرماح وأكّدت ذلك باستشهادها بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[6].
* من كتاب: زاد عاشوراء للمحاضر الحسيني ١٤٣٩ هـ – دار المعارف الإسلامية الثقافية
[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص 134.
[2] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45 ، ص 134.
[3] المصدر نفسه، ص 135.
[4] القرآن الكريم،سورة آل عمران، الآية 178.
[5] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص 134.
[6] القرآن الكريم،سورة آل عمران، الآية 169.