إنّ مواقف الإمام الحسن (عليه السلام) هي الّتي تنسجم مع المصلحة الإسلاميّة العُليا بلا شكّ في ذلك ولا ريب. وهذا الموقف الصعب الّذي اختاره جاء نتيجة للظروف الّتي عاشها الإمام عليه السلام وفرضت عليه هذا الخيار والّتي يمكن اختصارها بما يلي:
أوّلاً: إنّ معاوية أحكم خطّته وأظهر نفسه بمظهر المسالم المحبّ للصلح وحقن الدماء، وأراد أن يُلصق بالإمام الحسن (عليه السلام) رغبته في القتال وإراقة الدماء.
ثانياً: إنّ استمرار القتال سيؤدّي قطعاً إلى قتل الإمام الحسن (عليه السلام) من قبل عملاء معاوية المندسّين في جيشه، وسيتنصّل معاوية من جريمة قتله. أو سيؤدّي القتال إلى تسليم الإمام (عليه السلام) إلى معاوية من قبل رؤساء بعض القبائل أو قادة الجيش، وفي جميع التقادير سيكون معاوية هو الغالب كما ورد ذلك في قول الإمام (عليه السلام): “يزعمون أنّهم لي شيعة، ابتغوا قتلي وانتهبوا ثِقْلي وأخذوا مالي، والله لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني، فيضيع أهل بيتي وأهلي، والله لو قاتلت معاوية، لأخذوا بعنقي حتّى يدفعوني إليه سِلماً، فوالله لئن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسيره”[1].
ثالثاً: إنّ تضحية الإمام الحسن عليه السلام ستكون بلا صدى وذلك لقدرة معاوية على احتواء آثارها وتشويه أهدافها.
رابعاً: إنّ هذه التضحية ستؤدّي إلى القضاء على الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) وبقيّة بني هاشم، والصفوة الصالحة من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) وبالتالي ستخلو الساحة لمعاوية وأنصاره من معارضين، وهذا ما سيؤدّي إلى قلب المفاهيم الإسلاميّة من قبل معاوية.
هذا بالإضافة إلى ما ذكرناه من أمور تقدّمت كلّها دفعت الإمام الحسن (عليه السلام) إلى اختيار الصلح، والّتي يمكن إعادة تلخيصها بما يلي:
1- عدم رغبة جيشه في القتال.
2- التواطؤ مع معاوية من قبل الكثير من القادة والجنود.
3- الخيانات الفعلية المتكرّرة والمتمثّلة بالالتحاق بمعاوية، أو الفرار من المعسكرات.
4- شيوع البلبلة والاضطراب في صفوف القادة والجنود.
5- عدم الإخلاص للقيادة الشرعيّة.
وقد عبّر الإمام (عليه السلام) عن الأسباب الّتي أجبرته على القبول بالصلح في كثير من أقواله. كما ركّز (عليه السلام) على قلّة الأنصار الّذين ينهض بهم للقتال، فقال عليه السلام : “والله ما سلّمت الأمر إليه إلّا لأنّي لم أجد أنصاراً، ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري”[2].
وقال (عليه السلام) في موقفٍ آخر: “وقد خذلتني الأمّة، وبايعتك يا ابن حرب، ولو وجدت عليك أعواناً يُخلصون ما بايعتك”[3].
شروط الإمام عليه السلام ووعود معاوية
لم يوقّع الإمام (عليه السلام) الصلح إلّا بعد أن فرض شروطه على معاوية، ليكون (عليه السلام) في موقع القوّة دائماً ومعاوية في موقع الضعف على المدى القريب والمدى البعيد معاً، سواء كان معاوية يفي بالشروط أم لا يفي بها، فإنّ عدم الوفاء بها يضمن للإمام (عليه السلام) ولخطّ أهل البيت (عليهم السلام) نصراً على المدى البعيد لا محالة.
أمّا شروط الإمام الحسن (عليه السلام) فيمكن تحديدها بما يلي:
1- أن يعمل معاوية بكتاب الله وسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة الخلفاء الصالحين.
2- ليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد لأحدٍ من بعده.
3- الناس آمنون حيث كانوا في العراق والشام والحجاز وتهامة.
4- أمان شيعة وأصحاب عليّ (عليه السلام) على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم.
5- أن لا يبغي للحسن (عليه السلام) ولا لأحد من أهل بيته غائلة سرّاً وعلانية، ولا يُخيف أحداً منهم في أُفق من الآفاق.
6- أن تكون الخلافة للإمام الحسن (عليه السلام) من بعده.
7- أن لا يسمّيه أمير المؤمنين.
8- أن لا يُقيم عنده شهادة.
9- أن يضمن نفقة أولاد الشهداء من أصحاب الإمام عليّ (عليه السلام).
10- ترك سبّ الإمام عليّ (عليه السلام) والعدول عن القنوت عليه في الصلاة.
أمّا معاوية فقد وعد الإمام الحسن (عليه السلام) بوعود كثيرة منها:
1- لك الأمر من بعدي.
2- لك ما في بيت مال العراق من مالٍ بالغاً ما يبلغ تحمله إلى حيث أحببت.
3- لك خراج أيّ كور العراق شئت، معونة لك على نفقتك، يجبيها أمينك ويحملها إليك في كلّ سنة.
4- لك ألّا نستولي عليك بالإساءة.
5- لا نقضي دونك الأمور.
6- لا نعصيك في أمرٍ أردت به طاعة الله[4].
هذه الوعود والشروط الممضاة من قبل الطرفين، تفرض منطقيّاً على كلّ من يُفاضل بين الحرب والصلح، أن يختار الصلح مع تلك الظروف والموازنة العسكريّّة غير المتكافئة، وإلّا فإنّ معاوية سيتسلّم السلطة إمّا بانتصاره العسكريّّ أو بقتل الإمام (عليه السلام) من قبل عملائه المندسّين في جيش الإمام (عليه السلام)، وستؤول السلطة إليه دون شروط أو قيود تقيّده أمام المسلمين.
بينما أخذ الإمام (عليه السلام) عهوداً ومواثيق مقرونة بأَيمان مغلّظة من قبل معاوية على أن يفي بها.
فإن وفى بما تعهّد به، فإنّ الأمر سيعود إلى الإمام من بعده، وستكون لأتباع الإمام عليه السلام مطلق الحريّة في أداء دورهم الإصلاحيّ والتغييريّ.
وإنّ شرط عدم تسميته بأمير المؤمنين يسلب عنه شرعيّة الخلافة وإمرة المؤمنين، ويبقى مجرّد حاكمٍ أو ملك في أنظار المسلمين.
وإذا لم يفِ معاوية بالشروط فإنّ الأمّة ستنكشف لها حقيقة معاوية والحكم الأمويّ، وأنّه مجرّد طالب سلطة منذ أوّل شعار أعلنه حين مطالبته بدم عثمان.
* من كتاب: بحوث في الحياة السياسية لأهل البيت عليهم السلام – جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
[1] – بحار الأنوار، م.س: 44/20.
[2] – م.ن: 44/147.
[3] – م.ن: 10/143.
[4] – شرح نهج البلاغة، م.س: 16/36.