التاريخ: 29 جمادى الأولى 1447 الموافق: 2025/11/19
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم
الكلمة الطيبة التي طُرحت في الأسبوع الماضي هي أن الوجود المبارك لأمير المؤمنين قال: «مَا شَكَكْتُ فِي الْحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ»، فمنذ اللحظة التي أُري لنا فيها الحق، لم نشكّ أبدًا.
أحد الإخوة كتب يقول: إذا أُرِيَ الآخرون أيضًا الحق، فإنهم لن يشكّوا كذلك. الأمر ليس هكذا؛ فهناك الكثير من الحالات نتعلم فيها شيئًا، ويتّضح لنا، ولكننا لا نعمل به. ليس كل إنسان يمكنه أن يكون معصومًا. قد يبذل الشخص جهدًا مدة من الزمن ليحفظ عدالته، ولكن العصمة شيء آخر. علم هؤلاء ـ أولًا ـ وعصمتهم ـ ثانيًا ـ ليستا أمورًا اكتسابية.
توضيح ذلك أنّهم من الناحية العلمية لديهم قدرة على الإتيان بالمعجزة. والمعجزة خارجة عن كلتا الطريقتين العلميتين؛ العلم إما هو العلم العادي المعروف بالعلم القَرِيب (بالقاف) الذي يُطرح في الحوزات والجامعات والمؤسسات الثقافية، حيث يدرس الإنسان ويقرأ الكتب ويتعلم شيئًا؛ وهذه كلها من العلوم القريبة بالقاف. وإما أن يكون علمًا محرّمًا ممنوعًا، وهو العلم الغريب (بالغين)، كالسحر والشعوذة والجادو؛ وهذا أيضًا علم، له موضوع وله محمول وله دروس وله طرق للتعلم، لكنه محرّم. المقصود أنّ السحر والشعوذة والجادو علم؛ له مبادئ ومسائل وفروع وأصول، وهو علم يتعلمه الإنسان.
أمّا المعجزة فليست من سنخ العلوم كي يدرس الإنسان في مكان ما ليأتي بالمعجزة، أو يدرس في مكان ما ليصبح معصومًا. هذان الأمران أصلان سماويان لا معادل لهما في الأرض؛ أي إنّ الإنسان لو درس مئة سنة فإنه لا يصبح معصومًا ولا يستطيع الإتيان بالمعجزة. المعجزة ليست علمًا له موضوع ومحمول، بل هي مرتبطة بقوة الإرادة النفسية، وهي ليست من سنخ العلم حتى نقول إن غيرهم يمكن أن يقوم بها كما كان يفعل المسيح. انظروا إلى السحر أو الشعوذة أو الجادو؛ كلها تعتمد على العلم، سواء كان حلالًا أم حرامًا، لها موضوع ومحمول ومسائل ومبادئ ودراسة يمكن تحصيلها. والعلوم الحوزوية والجامعية كذلك لها موضوع ومحمول ونِسَب ومسائل ومبادئ يمكن دراستها. لكن المعجزة ليست من سنخ العلوم بحيث يدرس أحدهم ثم يأتي بالمعجزة. المعجزة متوقفة على مظهريّة إرادة الذات الإلهية المقدّسة.
مَن يُسمّى خليفة؟ الخليفة هو من يقوم بعمل المُستخلف عنه، لا من يقوم بعمله هو. عندما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، فمن هو الخليفة؟ هل هو الذي يكون عالمًا جيدًا، يقوم بالإمامة، ويحلّ مشكلات الناس؟ هذا ليس خليفة. الخليفة هو الذي يؤدي عمل مستخلفِه، لا عمل نفسه. من يدرس ويصبح عالمًا ومجتهدًا وفقيهًا وحكيمًا، فإنما يقوم بعمل نفسه، لا بعمل الله. عمل الله هو إدارة النظام؛ إدارة الوجود من الأرض إلى السماء، من العرش إلى الفرش. السماء تطيعه، والأرض تطيعه؛ يأمرها: أمطري هنا، ولا تمطري هناك. من يملك هذا السلطان المطلق اسمه الله. وقد قال: إني جاعل خليفة. ومعنى الخليفة هذا، لا مجرد إمام أو عالم أو محقق. الخليفة هو من يقوم بعمل المستخلف عنه، لا بعمل نفسه. الإنسان مهما درس وتكامل إنما يكمّل نفسه، ويقوم بعمل نفسه. يجاهد نفسه ويزكّيها ويقوم بالرياضات الروحية والاعتكاف كي يتكامل، وهذا كله عمل نفسه لا عمل الله.
كثيرون يقولون: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، الإنسان خليفة الله! أيّ إنسان هو خليفة الله؟ الله قال: أنا أعيّن الخليفة، وعلامة ذلك قوله لداود: ﴿يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَليفَةً فِي الْأَرْض﴾. لو جمعتم الآن جميع العلماء والمحققين، وأعطيتموهم قطعة من الحديد، وقلتم لهم ليّنوها، فهل يقدرون؟ هذا هو معنى المعجزة: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾. أحيانًا تكون القضية قضية صناعة، فيقول القرآن: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ﴾. أما في مورد تليين الحديد فلم يقل: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ﴾، بل قال: ﴿وَأَلَنَّا﴾؛ أي نحن الذين جعلنا الحديد لينًا في يده. من يمسك الحديد ويلينه بيده، فكيف يمكنه أن يتعلم درسًا يدفعه إلى ذلك؟ هذا ليس علمًا.
المقصود أنّ للمعصوم أمرين إلهيين: علمًا لا يوجد على وجه الأرض بحيث يمكن أن يُكتسب، والمعجزة التي ليست شيئًا يكتسبه أحد بالدرس. لأنه خليفة الله، وخليفة الله ينبغي أن يقوم بعمل الله. وعمل الله لا يُتعلَّم في حوزة أو جامعة. المعجزة ليست من سنخ العلوم، لا القريبة بالقاف، ولا الغريبة بالغين، كي يدرس الإنسان سنوات فيأتي بها. وكذلك العصمة؛ أن يكون معصومًا لا يخطئ أبدًا، ويستحيل أن يخطئ. مَن ذا الذي يملك مثل هذه القدرة؟ هل لو صلى مئات السنين صلاة الليل وصام وسيطر على شهواته يمكن أن يصبح بحيث لا يخطئ أبدًا؟ هذا أمير المؤمنين الذي قال: «مَا شَكَكْتُ فِي الْحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ». فلا يظن أحد أنه إذا أُري الحق للآخرين فإنهم لن يشكوا كذلك. إن كان الآخرون من الأنبياء والأولياء، نعم؛ فهم أيضًا خلفاء إلهيون. ولكن خليفة الله هو من يقوم بعمل الله، لا من يتولى إمامة المجتمع أو يصبح معلمًا أو مؤلفًا؛ فذلك كله عمل نفسه، لا عمل الله. خليفة الله هو من يحكم الأرض والسماء، ويأمر السحاب فيمطر، فهذه هي الأعمال الإلهية.
المقصود أنّ باب المعجزة مستقل، والعلم الغيبي والعصمة باب مستقل. نعم، قد يبذل الإنسان سنوات طويلة ليصبح إنسانًا عادلًا صالحًا ومراقبًا لنفسه، وهذا ممكن. لكن الإمام قال: أنا في عمري كله لم أخطئ، ولا أحد يستطيع أن يوقعني في الخطأ: «لاَ ضَلَلْتُ وَلاَ ضُلَّ بِي». نحن لا نذهب إلى الضلال، ولا يستطيع أحد أن يضلّنا. نحن لا جهل عندنا ولا نتجاهل، ولا يمكن لأحد أن يؤثر فينا. نحن نصبح خلفاءه. يجب أن يكونوا حجة له، وكل ما يخرج من هذا اللسان المطهر فهو حجة علينا. وهذه الجنة والنار يضمنهما لنا هذا الفم المطهّر. من ذا الذي يملك القدرة على أن يقول: «شَرِّقَا وَ غَرِّبَا فَلَا تَجِدَانِ عِلْمًا صَحِيحًا إِلَّا شَيْئًا خَرَجَ مِنْ عِنْدِنَا أَهْلِ الْبَيْتِ»؟ من الذي يستطيع أن يتلفّظ بمثل هذا الكلام؟ لو كان لديكم مئات من أمثال ابن سينا لما استطاعوا. لقد قال الإمام: شرقًا اذهبوا وغربًا اذهبوا، فالعلم الصحيح هو هذا الذي أقول.
المقصود أنّ ما نُقل عن الإمام في الجلسة الماضية حيث قال: «مَا شَككتُ فِي الْحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ»، قد كتب بعض الإخوة يقولون إنّه إذا وصل هذا الفيض إلى غيره فلن يشكّ هو أيضًا. نعم، إن جعله الله معصومًا كما يفعل بالأنبياء والأولياء، فهم كذلك. لكن إن أراد الله أن يجعل الآخر عالمًا ويعطيه فيضًا خاصًا، فلا، ليس الأمر كذلك. هذا البيت القائل: «فيضِ روحِ القُدُس ار باز مدد فرماید * دیگران هم بکنند آنچه مسیحا میکرد» ليس صحيحًا بهذا الإطلاق. إن كان المقصود هو الإمام أو النبي فذلك صحيح. أمّا إن نزلتم إلى ما دون النبي والإمام، فكلّ ما يقدّمه لهم فيض الروح القدس يجعلهم مجرّد أناسٍ عدول صالحين، ولهم نظراء وأمثال.
المقصود أنّ هذين الأمرين لا شريك لهما: المعجزة لا شريك لها، لا يمكن لأحدٍ أن يصبح نظير النبي بمجرد الدراسة فيأتي بالمعجزة؛ لا يمكن. لأنّ المعجزة ليست من سنخ العلوم. إنّها متوقّفة على قوّة الإرادة، لا على العلم؛ ليس لها موضوع ولا محمول. ما الذي فعلتموه حتى لان الحديد؟ الحديد في يد النبي يصبح لينًا كالعجين. هذا لا يُتعلّم بالدراسة. أمّا سائر شؤون الإدارة وما إليها فهي بالطبع من العلم، ويمكن للإنسان أن يعمل فيها، لكن هذا عمل الإنسان نفسه، لا العمل الإلهي.
العمل الإلهي هو ما نراه في شأن داود. لقد بلغ داود مبلغًا بحيث عندما كان يصلّي صلاة الجماعة كانت سلاسل الجبال تقتدي به: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ﴾؛ أي: يا جبال، تحرّكي بسرعة، أسرعي، إنّ داود يصلّي. هذه هي المعجزة. وهو بذلك يصبح خليفة إلهيًا. يأمر أمرًا رسميًا: يا سلاسل الجبال، الآن وقت صلاة داود، ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ﴾، اذهبي وشاركيه النَّوْحَ والتسبيح. هذا هو خليفة الله. أمّا أن يصبح الإنسان رجلاً صالحًا، أو مرجعًا جيدًا، أو حكيمًا، أو فقيهًا، فهذا صحيح، لكنه إنسان عالم، محقق، عادل؛ وليس من الذين «يفعلون ما كان يفعله المسيح». فالمقصود أنّ حساب هذين الركنين يجب أن يكون منفصلًا: المعجزة والعصمة. فهما من الصفات الخاصّة التي يمنحها الله تعالى لخليفته، لا للعلماء والدراسين وما أشبههم.
السؤال: هل المعجزة مخالِفة للعلم؟
الجواب: لا، ليست مخالِفة للعلم، بل هي مطابِقة للحق، غير أنّها “علمٌ إلهي”. نحن لدينا نوعان من العلم: علم زيد وعمرو وبكر وخالد، وعلمٌ إلهي. العلم الإلهي متّصل بالأزلية والأبدية.
هنا، بعد أن قال الإمام في الجملة النورانية 184: «مَا شَككتُ فِي الْحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ»، قال أيضًا: «مَا كَذَبْتُ وَلا كُذِّبْتُ وَلا ضَلَلْتُ وَلا ضُلَّ بِي». إنّ حدودنا معصومة: لا نحن نقول كذبًا، ولا الكذب يجد سبيلًا إلى ساحاتنا؛ فهذا مكانٌ محرّم عليه. فمثلًا، أن يأتي أحدهم بخبرٍ كاذب فنقبله وننخدع، هذا غير ممكن. لا نحن قلنا الكذب، ولا الكذب يؤثّر فينا. لا نذهب إلى الضلالة، ولا يستطيع أحد أن يُضلّنا. هذا مكانٌ ممنوع. هذه هي الجملة النورانية 185: «مَا كَذَبْتُ وَلا كُذِّبْتُ وَلا ضَلَلْتُ وَلا ضُلَّ بِي».
وفي الجملة النورانية 186 قال: «لِلظَّالِمِ الْبَادِي غَدًا بِکَفِّهِ عَضَّهٌ». إنّ من يظلم، وما يجري اليوم في غزّة وأمثاله، فذلك من الجاهلية لا من الجهل. وكيف سيأخذ الله هؤلاء؟ غير معلوم! كيف ستُثمر هذه الآهات؟ وكيف، بحقّ علي وأولاد علي، سيُستأصل الصهاينة من الجذور؟ هذا غير معلوم كيف سيتمّ! قال: في أوّل لحظة يرتكب فيها الظالم ظلمه، يضع الله تعالى فضيحته في كفّه. فالظلم غير منسجم مع هذا النظام. أنتم إذا أكلتم –لا سمح الله– طعامًا فاسدًا فإنّكم ترجِعونه. هذا الجهاز (جهاز البدن) خلقه الله تعالى جهازًا سليمًا مئة بالمئة. لماذا نتجشّأ أو نقذف الطعام؟ لأنّ هذا الطعام غير منسجم مع هذا الجهاز. وهذا مثال وتجربة تُرينا شيئًا من الأمر؛ فنحن عالمٌ صغير: «جهاني است بنشسته در گوشهاي». إذا أردتم معرفة العالم فاعرفوا أنفسكم. هذا الجهاز غير منسجم مع ذلك الطعام. إمّا أنّه يضغط في الداخل ويجبرنا على الذهاب إلى الطبيب، أو يُطرَح من الأسفل، أو يُقذَف من الأعلى. على أيّ حال، فهو غير متوافق مع البدن.
لقد خلق الله تعالى هذا البدن وفق نموذج خاص. والعالَم غير منسجم مع الظلم. فماذا تريد أن تفعل؟ أين تريد أن تُخفيه؟ أينما تُخفيه سيظهر بنفسه.قال: إنّ الظالم يفتضح. منذ أوّل مرة يُفضح. أين يريد أن يخفي عمله؟ المقصود أنّ الظلم ليس فقط عملًا سيّئًا، بل هو غير منسجم مع نظام العالم. نعم، هو سيّئ وله جهنّم أيضًا. أحيانًا نقول: إنسان ارتكب مخالفة غذائية، وهذا عمل سيّئ؛ نعم، هو سيّئ، وأحيانًا يكون أكلُ الطعام الضارّ حرامًا أيضًا. كلّ هذا محفوظ. لكن الحقيقة أنّ الطعام غير المنسجم لا يملك الإنسان السيطرة عليه؛ فهذا البدن جهازٌ خاص، وهو منسجم مع الطعام السليم. أمّا الطعام غير السليم فيرجعه؛ إمّا يتقيّأ فيُطرَح من الأعلى، أو يُدفَع من الأسفل.
وكذلك نظام الوجود لا يتحمّل الظلم. كلّ العظماء الذين جاؤوا، تاريخهم محفوظ، وقبورهم باقية. أمّا الطغاة الكُثُر الذين ظهروا، فلا أثر لهم. هذا العالم، هذا الوجود هو عملٌ إلهي. قال تعالى: لقد خلقنا العالم بأحسن صورة: ﴿فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقينَ﴾، وهذا يصدق على الإنسان كما يصدق على العالم.
نحن جهازُنا كذلك بحيث لا يقبل الباطل، ولكن ضمن حدودٍ معيّنة. أمّا المعصوم فهو في نطاقٍ أوسع، بحيث لا يؤثّر فيه الكلام الباطل، ويُكشف له الخطأ فورًا. نحن لا نسلك الطريق المنحرف، ولا يستطيع أحد أن يجرّنا إلى الانحراف. لا نضلّ، ولا نُضلّ أحدًا: «وَلاَ ضَلَلْتُ وَلاَ ضُلَّ بِي». من ذا الذي يمكنه أن يقول هذا الكلام؟ لا أحد يستطيع ذلك! من ذا الذي يمكنه أن يتيقّن؟ فقد يُوصِي عدّةُ أشخاصٍ الإنسانَ، أو يقدّمون له خبرًا كاذبًا، فيتغيّر حاله؛ لكنّهم قالوا: نحن لسنا كذلك، بحيث يأتي أحدٌ بخبرٍ كاذب أو توصيةٍ مزيّفة ويُغيّر مسارنا؛ ليس الأمر كذلك. إذن: «لِلظَّالِمِ الْبَادِي غَدًا بِكَفِّهِ عَضَّهٌ»، هذا بالنسبة للظلم. ثم قال: «مَا كَذَبْتُ وَلاَ كُذِّبْتُ وَلاَ ضَلَلْتُ وَلاَ ضُلَّ بِي»، نحن لا نقول الكذب، ولا يستطيع أحد أن يضلّنا بكذبه. لا نسلك الطريق الخطأ، ولا يستطيع أحد أن يجرّنا إلى الضلال.
وكما تعلمون، فإنّ هذه الزيارة (زيارة الأضرحة المباركة) بالنسبة لنا درسٌ. فقد لا يتوفّق الإنسان لزيارة الحرم، ولكن قراءة “الزيارة الجامعة” وأمثالها هي درس، بمعنى أنّها تعليم. في هذه الزيارة الجامعة، ماذا نقول؟ الزيارة ليست أن نقول: يا رب اغفر لوالدينا، أو يا رب احفظ حياتنا ومسكننا وأولادنا؛ فهذه هي الحاجات الجزئية التي نعرضها، وإن شاء الله يُستجاب لها. ولكن حاجتنا الأساسية في الزيارة الجامعة ماذا ينبغي أن تكون؟ عندما نتشرّف بزيارة المعصوم نقول كل تلك الحاجات، وهي مؤثّرة ولها أثر، ولكن نقول للمعصوم: أنتم قلتم بأنّ لكم مدرسةً خاصّة، الملائكة فيها تلاميذ، وهذه المدرسة لها علوم جديدة، وفيها معارف ليست في أماكن أخرى: «لَا يَحْتَمِلُهُ إِلَّا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أَوْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ». قال: عندنا علومٌ كثيرة، ولنا تلاميذ كُثُر يتعلّمون، لكن عندنا طائفة من العلوم لا يتحمّلها إلا تلاميذنا الخواص من الأنبياء. وهذا ما نقرأه في الزيارة الجامعة عند الحرم المطهّر للإمام الرضا (سلام الله عليه). فإذا كان ملكٌ مقرّب فهو من تلاميذنا، وإن كان نبيًّا مُرسلًا فهو من تلاميذنا. هذا العلم الذي عندنا، لا يحضره إلا هؤلاء. أمّا سائر العلوم كالفِقه والأصول فبإمكان الآخرين المشاركة فيها.
في زيارة الإمام الرضا، ماذا نطلب؟ نقول له في أواخر الزيارة الجامعة: امنحنا التوفيق لننال شيئًا من ذلك العلم الذي «لا يُحتمل». ما هو هذا؟ وأين هو؟ وما مقام الإنسان؟ أنتم الذين قلتم إنّ لكم تلاميذ خاصّين، وهؤلاء التلاميذ إمّا نبيّ أو ملك؛ فما هذا العلم؟ وقد قلتم: اقرأوه. ولو لم يكن لهذا الأثرُ لما أمرونا بقراءته. فالزيارة ليست قراءةً فحسب كقراءة سورة. إنها طلب، إنها سؤال. نقول للمعصوم: أنت الذي تملك هذا العلم، وتملك تلاميذك الخواص، فامنحنا إذنًا أن نكون هنا، «لَا يَحْتَمِلُهُ إِلَّا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أَوْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ»، أعطِنا منه. نحن لا نصل إلى مقامهم، هم لديهم آلاف، ونحن لو نلنا ذرّةً واحدة لكفتنا. ذرة واحدة تكفينا؛ لأن الإنسان إذا نالها تُعينه في كثير من الأمور، وتمنعه من الانحراف. وليس ضروريًا أن يزور الحرم، فالحرم وغير الحرم عندهم سواء. يقرأ هذه الزيارة الجامعة في بيته، سحرًا أو غير سحر.
حين يقول المعصوم: نحن كذا ونحن كذا، لا يريد أن يمدح نفسه فحسب، بل هو كمن يكتب إعلانًا على لوحة: هنا درس الفقه، وهناك درس الأصول، أي: تعالوا. عندما يقولون: نحن هكذا ونحن هكذا، فهل يريدون فقط أن يعرّفوا أنفسهم لنا؟! أم يريدون أن يقولوا: هذا هو موضع العلم، تعالوا. هنا علم، وهنا علم، وهنا علم: «لَا يَحْتَمِلُهُ إِلَّا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أَوْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ». ثم نقول: «واجعلني ممّن يحتمل علمك»؛ هذا في الزيارة نفسها. نقول: اللهم امنحنا التوفيق لتحمّل هذا العلم. ولو نلنا منه ذرّة واحدة لكان كافيًا لنا؛ فهذا يكفي الإنسان طول عمره. قد تحصل حوادث كثيرة، وتحولات كثيرة، ولكنه لا يضلّ الطريق. كثيرون قد يُغوون غيرهم أو يجرّونهم إلى الانحراف، ولكن هو لا يضلّ الطريق. وهذه كلمة عظيمة.