العلامات البارزة لأفول الولايات المتّحدة الأمريكيّة استنادًا إلى الوثيقة الأخيرة لإدارة ترامب

يرى العديد من خبراء الشؤون الدوليّة، أنّ نشر وثيقة إستراتيجيّة الأمن القوميّ الأمريكيّة، وهي إحدى الوثائق الرئيسة في مجال الأمن القوميّ والسياسة الخارجيّة للولايات المتّحدة والتي تُنشر كلّ أربع سنواتٍ، يشكّل، قبل أيّ شيءٍ، دليلًا واضحًا على أفول أمريكا من حيث مستوى تأثيرها على النّظام العالميّ الجديد.

حقائق مريرةٌ للولايات المتّحدة استنادًا إلى محتوى وثيقةٍ رسميّةٍ

يرى الصحفيّ مسعود بَراتي في هذا السياق، أنّ إدارة ترامب، في مقدّمة الوثيقة، تعترف بأنّ السياسات الأمريكيّة السابقة تجاه القضايا العالميّة كانت خاطئةً وتفوق قدرة الولايات المتّحدة. وجاء فيها: «لقد بالغوا في تقدير قدرة أمريكا على تمويل دولة الرعاية والأنظمة التنظيميّة والإداريّة الضخمة، في الوقت نفسه الذي تموّل فيه مجمعًا عسكريًّا-دبلوماسيًّا-استخباراتيًّا-تنمويًّا واسعًا». كما تهاجم الوثيقة «التجارة الحرّة» وتعتبرها سببًا في تآكل «الطبقة الوسطى» و«التفوّق الاقتصاديّ والعسكريّ الأمريكيّ». وبعبارةٍ أخرى، تعترف الوثيقة بأنّ الولايات المتّحدة لم تعد تمتلك تفوّقًا اقتصاديًّا وعسكريًّا في العالم الراهن.

وأضاف براتي أنّ هذه الأمور التي تصفها وثيقة ترامب بالسياسات الخاطئة هي، في الحقيقة، المكوّنات الجوهريّة الّتي شكّلت هيمنة الولايات المتّحدة والنظام الأمريكيّ بعد الحرب العالميّة الثانية، ولاسيّما بعد انهيار الاتّحاد السوفيتيّ. وتبدو الوثيقة في مواضع كثيرةٍ وكأنّها تعيد الولايات المتّحدة إلى حدودها الداخليّة، بما يعكس أنّ ترامب لا يرى بلده قادرًا بما يكفي على مواصلة السياسات السابقة. وحتّى عند الحديث عن السّياسات الأمريكيّة في غرب آسيا (الشرق الأوسط)، يعبّر ترامب عن ارتياحه بأنّ قضايا هذه المنطقة لم تعد تهيمن على السياسة الخارجيّة الأمريكيّة، وأنّ حروب «بناء الأمم» التي استمرّت لعقودٍ دون جدوى قد انتهت.

تغيّر أسلوب الحفاظ على توازن القوى

وتابع براتي أنّ الوثيقة تعتبر «تعزيز القوّة الصناعيّة» أولويّةً قصوى في السياسة الاقتصاديّة الوطنيّة، ومن المثير للاهتمام أنّ إدارة ترامب تعتبر ذلك ضروريًّا لاستعادة القوّة الوطنيّة الأمريكيّة المفقودة، وهذا يعكس أنّ ترامب لا يرى في القوّة الصناعيّة الحاليّة ما يكفي لتلبية حاجات البلاد في السلم والحرب.

كما أشار إلى أنّ بُعدًا مهمًّا آخر في هذه الوثيقة هو كيفيّة تعامل الولايات المتّحدة مع صعود لاعبين آخرين على الساحة الدوليّة. ففي الماضي، كان التصوّر أنّ أمريكا تسعى إلى احتواء القوى الصاعدة بأقصى درجةٍ، وهو ما كان يُشار إليه بمصطلحاتٍ مثل «محور الاستبداد» أو «محور التغيير» أو غيرها، أمّا في الوثيقة الحاليّة فيجري التشديد على الحفاظ على توازن القوى، مع التأكيد على أنّ الولايات المتّحدة لن تسمح لأيّ دولةٍ بأن تبلغ مستوىً يهدّد مصالحها، غير أنّ الحلّ المقترح هو التعاون مع الحلفاء للحفاظ على التوازن، وهذا لا يُعدّ مواجهةً قصوى، بل اعترافًا بصعود تلك القوى والتركيز فقط على منع هيمنتها. وبمعنى آخر، فقد سلّمت الولايات المتحدة بتغيّر النظام الدوليّ وتحوّل معادلة القوى على الساحة الدوليّة.

تغيّر النّظام العالميّ واستمرار الأفول

ويرى الدكتور فؤاد إيزدي، الخبير والمحلّل في السّياسة الدوليّة، أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة تسير في مسار الأفول منذ سنواتٍ، كما أشير إلى ذلك بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ في التّقارير السّنويّة لبعض الاجتماعات والمؤتمرات المهمّة مثل مؤتمر ميونيخ.

كما لفت إلى أنّ قائد الثورة الإسلاميّة أكّد مرارًا في خطاباتٍ عديدةٍ أنّ أفول أمريكا أمرٌ واقعيٌّ ولا رجعة فيه، مبيّنًا أنّ الثورة الإسلاميّة منذ بدايتها رفضت هيمنة الشرق والغرب، وأنّ عداءها اليوم مع الولايات المتّحدة ليس بسبب طبيعة ذلك البلد، بل بسبب سياساته الاستكباريّة والظالمة الّتي استمرّت ضدّ بلدنا على مدى حوالي خمسة عقودٍ أخيرةٍ.

الحذر من أهداف الحرب الإدراكيّة التي يشنّها العدوّ

وأوضح إيـزدي أنّ الحرب الإدراكيّة التي يشنّها العدوّ، ولاسيّما المسؤولون الأمريكيّون، تُتابع بهدف الإيحاء بعدم كفاءة الجمهوريّة الإسلاميّة، وتبعًا لذلك، الإيحاء باليأس تجاه المستقبل بين الناس والجيل الشابّ، مصرّحًا بأنّ المهمّ هو أن نكون حذرين لئلّا نقع في فخّ الدّعايات المُوجّهة للعدوّ ووسائله الإعلاميّة، وأن تكون تحليلاتنا تجاه الولايات المتّحدة واقعيّةً ومبنيّةً على التّجارب الماضية، مع العلم بأنّ أفول الولايات المتّحدة هو مسألةٌ قطعيّةٌ بناءً على شهادة محلّليهم أنفسهم.

علاماتٌ جدّيّةٌ على الانهيار من الدّاخل

ويرى الدكتور محمّد صادق خُرْسَند، المدرّس والباحث في الشّؤون السياسيّة، أنّ ما تعيشه الولايات المتّحدة اليوم في مختلف الميادين ليس مجرّد أفولٍ، بل هو علاماتٌ على الانهيار. فبحسب التحذيرات المباشرة وغير المباشرة لخبراء أميركيّين، تواجه البلاد أزماتٍ اجتماعيّةً واسعةً، كما أعلن مركز المجلس الأطلسيّ مؤخّرًا بصراحةٍ أنّ الولايات المتّحدة تقف في أدنى مستوياتها اجتماعيًّا.

وأضاف أنّ النظام الدوليّ الحاليّ لم يعد يمتلك قيادةً واحدةً مهيمنةً، بل يتكوّن من قوى متعدّدةٍ، مشيرًا إلى أنّ الأنظمة الدوليّة عبر التاريخ شهدت أطوارًا متنوّعةً، ومن الواضح أنّ القوى والحضارات بعد فتراتٍ من التفوّق تبدأ تدريجيًّا في التآكل والزوال.

تفاقم الانقسامات داخل المجتمع الأمريكيّ

كما بيّن خرسند أنّ هناك مؤشّراتٌ تدلّ على أنّ النّظام العالميّ اليوم لم يعد أحاديّ القطب، وفي هذا السّياق يجب أخذ النّقاط الاقتصاديّة والثّقافيّة والسّياسيّة وغيرها بعين الاعتبار والتّحليل. وسبق أن نشر مركز المجلس الأطلسيّ تقريرًا بعنوان «الدولة الفاشلة» أكّد فيه أنّ الولايات المتّحدة تقف في أدنى مستوياتها على صعيد الواقع الاجتماعيّ والشعبيّة، وأنّ الانقسامات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة داخل هذا البلد ستزداد حدّةً في المستقبل.

للمشاركة:

روابط ذات صلة

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل