الجواب: الإنسان كائن عاقل، مفكر وباحث عن الحقيقة؛ أي أنّه عند تفاعله مع البيئة المحيطة، يطرح على نفسه أسئلة متعددة. وكلما نما ونضج عقله، ازدادت هذه الأسئلة عمقاً وغنى، بحيث لا يُمكن حصر تفكيره ودينه ضمن إطار جغرافي أو زماني محدد.
فمنذ فجر الخلق وحتى اليوم، كان أحد أهمّ هموم البشر “فهم الوجود وفهم سبب وجوده”؛ أي من أين جاء، ولماذا جاء، وإلى أين هو سائر.
هذه الأسئلة الثلاثة تُعدّ من أهم الأسئلة الأساسية للبشر، وقد شغلت أذهانهم منذ القدم، وسعى الإنسان دوماً لإيجاد إجابة مناسبة ومُطمئنة لها، وما لم يحصل على جوابٍ صائب، لا يَنعم قلبه بالسكينة والاطمئنان.
ولذلك وُجد علم الفلسفة، فهو مُختصّ بتفكير الإنسان وتأملاته العقلية؛ فالفلسفة علمٌ حرّ يسعى إلى معرفة الوجود كما هو. وفي هذا العلم يُقال: إنّ الدليل وحده هو المقبول، وإنّ أي قولٍ بلا برهانٍ ودليلٍ لا يُعتدّ به؛ والبرهان هو نتيجة مقدمتيْن يقينيتيْن، تكونان بدورهما يقينيّتين.
لذلك، إذا سعى الإنسان وراء الحقيقة، وتبنّى كلّ شيء بناءً على دليل وبرهان، فلن يقع أبداً في أسر الأوهام والخرافات.
ومم ثم فلا ينبغي للإنسان أن يكون مقيداً بالتعصّب أو العادات والتقاليد المجتمعية، بل يجب عليه أن يتجاوز ذلك، ويقيس كل ما يراه بعقله وفطرته، فيقبله إذا وافق العقل والفطرة، ويتركه إذا خالفهما. فالقول بأن الدين والمعتقدات تنبع من رحم المجتمع، وأنّ الدين هو نتاج جبر الحدود الجغرافية.. هذا القول باطل تماماً ولا يُقبل على الإطلاق، وذلك لعدة أسباب:
أولاً: الإنسان حرّ ومختار، ولا يستطيع المجتمع أو البيئة أن يسلب منه إرادته، ولا يمكنهما إيقاف ذهنه النشط. قد يكون هذا الادعاء صحيحاً بالنسبة لأولئك الذين لم ينضجوا فكرياً بحيث يستطيعون التفكير واتخاذ القرار، لكنّه لا يشمل كلّ البشر ولا يعمّهم جميعاً.
ثانياً: الواقع يثبت خلاف هذا في كثير من الحالات، ووجود هذه الحالات يُبطل الفرضية بشكل قاطع. فإذا نظرنا إلى حياة الأنبياء العظام، نجد أنّ جميعهم دون استثناء قد قاموا ضد المجتمع والمعتقدات الباطلة في زمانهم، وبعد فترةٍ قصيرة، وبنور هدايتهم، انضمّ إليهم جمعٌ كبير من أولئك الناس الذين كانوا يعيشون وفق طقوس ومعتقدات غير صحيحة.
ولقد كان وجود النبيّ الكريم، رسول الرحمة محمد المصطفى صلّى الله عليه وآله على هذا النحو أيضاً. لقد نشأ بين قومٍ لم يكن إلا قلةٌ محدودة منهم موحّدة، بينما كان أغلب الناس مشرِكين وعبدة أوثان.
ومع ذلك، لم يشرك إطلاقاً قبل البعثة التي استمرت حوالي أربعين عاماً ولم يتبع شعائرهم الوثنية، وبعد البعثة قاتلهم بكل قوةٍ وعزم.وقد تمكّن خلال فترةٍ قصيرة من إقناع جمعٍ كبير من أهل ذلك المجتمع بالانضمام إليه، وبعد ثلاثة وعشرين عاماً، أزال جميع مظاهر الشرك وعبادة الأوثان عن تلك الأرض، وأرسى دينًا جديدًا قائمًا على العقل والفطرة السليمة.
وفي العصر الحاضر، نرى أنّ الكثير من أهل أوروبا وأمريكا، الذين نشأوا في بيئة مليئة بالفساد والانحراف، قد تمكنوا من مواجهة معتقداتهم السابقة والانضمام إلى الإسلام، واختيار المذهب الشيعي لأنفسهم.
وقد كان يُنظر إلى الإسلام قبل نحو 30 أو 40 سنة في أوروبا كدينٍ مستورد، ولكن في الوقت الحاضر، يُعتبر الإسلام ووجود المسلمين في كثير من الدول الأوروبية أحد الأديان المهمة في تلك البلاد.
أي أنّ هؤلاء الناس، الذين كان جميع أسلافهم من الأوروبيين والمسيحيين، قد اعتنقوا الدين الإسلامي العظيم وتركوا معتقداتهم السابقة.ولم يهاجر هؤلاء إلى أيّ دولة مسلمة، بحيث يمكن لأحد أن يقول إنّ الإسلام الذي اعتنقوه كان نتيجة التماس مع مجتمع مسلم؛ بل بقووا في بلادهم، ومع ذلك غيّروا دينهم بمحض إرادتهم ووعيهم العقلي والديني.
لذلك، وبالنظر إلى هذين الأمرين، لا يمكن قبول الفرضية التي تقول إن الدين هو نتاج جبر تاريخي أو جغرافي:
أولاً: المجتمع لا يستطيع أبداً سلب حرية الإنسان وإرادته.
ثانياً: نرى في جميع أنحاء العالم أناساً نشأوا في بيئات غير مناسبة، وكانوا في البداية من أتباع دين آخر، ومع ذلك تمكنوا من مواجهة هذه الممارسات الخاطئة وتغيير دينهم ومعتقدهم.وتلك الأمثلة نفسها تُعدّ دليلاً واضحاً على بطلان هذه الفرضية الاجتماعية.