درس الأخلاق الأسبوعي/ آية الله جوادي آملي دام ظله

بتاريخ: 19 جمادى الآخرة 1447 ه

بسم الله الرحمن الرحيم

من الكلمات النورانية الواردة عن الوجود المبارك لأمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا القسم من الحكم والكلمات القصار، ما جاء ابتداءً من الحكمة رقم (188) وما بعدها، حيث قال (عليه السلام):

«مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ»
«مَنْ لَمْ يُنْجِهِ الصَّبْرُ أَهْلَكَهُ الْجَزَعُ»
«وَا عَجَبَاهُ! أَتَكُونُ الْخِلَافَةُ بِالصَّحَابَةِ وَلَا تَكُونُ بِالصَّحَابَةِ وَالْقَرَابَةِ؟»

وفي سياق حكومة أمير المؤمنين (سلام الله عليه)، قام الإمام بتوضيح الأمر توضيحًا دقيقًا، فقال: لقد تلقّينا أمرًا سماويًا من قبل الذات الإلهية المقدّسة، ولكنكم لم تتركوا له مجال التنفيذ. لقد أبعدتم الغدير وأقمتم السقيفة.

إنّ ما كُلّفنا به هو الغدير، وهو أمر سماوي يتمثّل في خلافة الله، أمّا ما دُبّرتموه فكان مسألة السقيفة. والفرق بين الغدير والسقيفة فرق شاسع. نحن مكلّفون بإحياء الغدير، وأنتم سعيتم إلى تحويل ذلك الحق إلى باطل.

والله، إنني لا رغبة لي في هذه الخلافة من حيث هي سلطة؛ فالخلافة التي كانت هي الخلافة الإلهية، كما ورد في قول النبي (صلى الله عليه وآله): «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ»، وهي خلافة الله.

وقد قال (عليه السلام): أنتم أنزلتم هذا الأمر من السماء إلى الأرض، وأنا حين رأيت خطر إراقة الدماء قبلت بذلك. لقد كان معنا «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ»، وقد نزلت الآية، وكان ذلك بأمرٍ من الله سبحانه وتعالى.

إنّ الله سبحانه يدبّر العالم وفق قانونٍ إلهي:
أولًا: إنّ لهذا الكون قانونًا إلهيًا يحكمه.
ثانيًا: كل من يقف في مواجهة هذا القانون الإلهي يكون مصيره الهلاك.

ولهذا قال (عليه السلام): «مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ»

أنتم لا ترون أحدًا، إنما ترون سماءً وأرضًا، وترون مطرًا وجفافًا فحسب. غير أنّ هناك قانونًا يُسمّى القانون الإلهي والخلافة الإلهية.
ذلك الذي قال: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، فهذه جملة اسمية، والجملة الاسمية تفيد الدوام؛ أي إنّ لي خليفة في كل عصر وكل مصر. وسيتّضح لاحقًا هل الصدّيقة الكبرى خليفة أم لا.

قال تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ﴾:
أولًا: هي جملة اسمية،
ثانيًا: تفيد الاستمرار والدوام،
ثالثًا: غير قابلة للتعطيل.

قال: إنّ لي خليفة إلى يوم القيامة، ظاهرًا كان أو مستورًا.
﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، وقد حُلَّ هذا الأمر في مؤتمر الغدير، وحُلَّ في أرض الحجاز، وحُلَّ في أرض منى، لكنكم وضعتم ذلك جانبًا.

«مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ»، ولا شكّ أنّ الهلاك سيكون من نصيبكم. فقد جئتم فحوّلتم هذه الخلافة إلى خلافة سَقيفية، وحوّلتم الآخرة إلى الدنيا، والحق إلى الباطل، والسماوي إلى أرضي.

وأنا قبلتُ بذلك لكي لا تُراق الدماء، وإلا فوالله ما لي رغبة في هذه الخلافة. وهذا القسم وارد في مواضع متعددة من نهج البلاغة، كما ورد في خطبة أخرى سأعرضها عليكم.

قال (عليه السلام): والله إنني لا أريدها؛ لأنها ليست خلافة إلهية، ولأنّ ما صُنِع بالدسائس في السقيفة ليس خلافة إلهية، وليس هو الإمامة.

أنتم لا تعلمون ما هي وظيفة الإمامة. هناك عمل تقوم به الحوزات العلمية والجامعات في مختلف أنحاء العالم؛ فالرسالة الأساسية للحوزة والجامعة هي إزالة الجهل، أي جعل الناس علماء، وجعلهم أهل معرفة وبحث وتحقيق، وهذا أولًا. إزالة الجهل تعني إزالة الجهل، فانتبهوا جيدًا.

ثانيًا: هناك مجموعة من الأعمال الخاصة بالمساجد والحسينيات ومجالس العزاء والخطابات، وهي إزالة الجهالة لا إزالة الجهل. فليس من وظيفة المسجد والحسينية والهيئات أن تقوم بالبحوث العلمية كما تفعل الحوزات والجامعات؛ بل إن الأخلاق والآداب والإنسانية هي التي تزيل الجهالة. فوظيفة الحوزات والجامعات هي إزالة الجهل، وهذه واحدة، ووظيفة المساجد والمراكز الدينية والهيئات والدروس الأخلاقية هي إزالة الجهالة، وهذه الثانية.

أما الإمامة فهي فوق هذين الأمرين معًا؛ فالإمام لم يأتِ فقط ليحوّل الجاهلين إلى علماء، ولم يأتِ ليحوّل سيئي الأخلاق إلى حسني الأخلاق. الإمام يعني أنّه جاء ليُزيل الجاهلية. وما علاقة هذا بالحوزة والجامعة؟

مرارًا وتكرارًا كان الدم يسيل من سيف أمير المؤمنين، وكان يقول: إنّ ما يقوم به هؤلاء هو جاهلية، جاهلية، جاهلية. ذلك الواقع الذي يكون أحد أطرافه الترف الفاحش، وطرف آخره الاختلاس، وطرفه كذا وكذا، هو جاهلية.

قال (عليه السلام): لقد جئتُ لأزيل الجاهلية. عملي أسمى من عمل الحوزة، وعملي أسمى من عمل الجامعة، وعملي أسمى من عمل المسجد والحسينية. فوظيفتهم إزالة الجهل، أولًا، وإزالة الجهالة، ثانيًا. وهذه أعمال فردية يمكن القيام بها؛ يمكن جعل شخص عالمًا، ويمكن جعل شخص حسن الخلق، أما أنا فأُحيي النظام.

أنا لم آتِ لأكون معلّمًا، ولم آتِ لأكون مربّي أخلاق، بل جئتُ لتكون التعليم والأخلاق، وإزالة الجهل وإزالة الجهالة، ضمن منظومتي وتحت رايتي؛ جئتُ لأزيل الجاهلية، وليكون ذانك الأمران فرعين من هذا الأصل.

من أجل هذا أُقسم بالله إنّ ما صنعتموه في السقيفة لا أريده. وقد أقسم (عليه السلام) على ذلك، وهذا القسم مذكور في مواضع متعددة من كتاب نهج البلاغة، وجزء منه وارد أيضًا في هذا النهج الشريف نفسه.

جاء في نهج البلاغة، في السطرين الرابع والخامس من الخطبة (205): «وَاللهِ مَا كَانَتْ لِي فِي الْخِلَافَةِ رَغْبَةٌ»

فالذي أعطاني الله إيّاه وكان تكليفًا إلهيًا، كنتُ أستقبله وأقبله. أمّا نحن، فلدينا نوع من الجاهلية لا يمكن رفعه لا بالحوزة العلمية، ولا بالجامعة، ولا بالمسجد والحسينية. هذا الأمر يحتاج إلى قدرة عسكرية، ويحتاج إلى قدرة على إدارة الدولة، وهي القدرة التي يمتلكها نظام الإمامة والأمة، القادر على إزالة الجاهلية.

فالجاهلية أمر آخر. وقد أُشير في بحث الأمس إلى أنّ لدينا مجموعة من الأعمال يشترط فيها العدل، مثل إمامة الصلاة، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾.

وهناك مجموعة أخرى من الأعمال لا يكفي فيها مجرد عدالة إمام الصلاة. ففي المواطن التي يوجد فيها الرشوة الخفية والعلنية وما شابه ذلك، هناك مقاومة مطلوبة، وهناك يكون القيام بالقسط لازمًا، وهذا غير عدالة إمامة الصلاة.

ففي مواضع الرشوة، والفساد، والممارسات المالية المنحرفة، وعشرات المشكلات الأخرى، لا بدّ من الصمود والمواجهة. وهناك ـ أي في مرتبة أعلى ـ لا تكفي لا عدالة إمام الصلاة، ولا حتى قيام الجهاز القضائي بالقسط. قال تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾.

ففي المواضع التي تريدون فيها المشاورة مع أمريكا في قضايا كالاتفاق النووي (البرجام) وأمثاله، أو تقديم النصيحة، أو إلقاء الخطب، أو الدخول في الحوارات، لا ينبغي أن ترتعدوا أو تتزلزلوا، ولا يجوز أن تبيعوا البلد مقابل الدولار وأمثاله.

أن تكونوا عادلين بقدر إمام الصلاة لا يكفي، وأن تكونوا قائمين بالقسط بقدر القاضي لا يكفي، بل المطلوب أن تكونوا قوّامين بالقسط، حتى لا تبيعوا الوطن. وهذه المرتبة من القوامة بالقسط لا ينالها كل أحد.

قال: هل قال الله سبحانه لإمام الصلاة: كونوا قوّامين بالقسط؟ وما الذي يُراد منه أصلًا حتى يُكلَّف بحمل هذا العبء الثقيل؟ أأنتم اشترطتم أن يكون إمام الصلاة قوّامًا بالقسط؟ إنّ هذا تكليف بالغ الثقل، فماذا يُطلب منه؟ يكفيه قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾.

وأما القاضي، فيكفيه أن يكون قائمًا بالقسط، لكن الذي يريد أن يتعامل باسم الدولة، ويُجري شؤون البلاد ومعاملاتها، فهناك يجب أن يكون من ﴿قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾، بحيث لا يخدعه شيء ولا يغرّه شيء. وقال: إذا كنتم تتحدثون بشأن البلاد مع الأجنبي، فلا بد أن تكونوا قوّامين بالقسط.

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): نحن قوّامون بالقسط. لقد جئنا لإزالة الجاهلية، لا لمجرد أن نجعل أربعة أشخاص عادلين. إن البرنامج الرسمي لنظام الإمامة والأمة هو إزالة الجاهلية، لا مجرد جعل بعض الناس عدولًا، ولا مجرد جعل بعضهم علماء. قال: نحن نريد ذلك، لكنكم جئتم بهذه الخلافة السقيفية، فقمتم بعمل بسيط، والله إني لا أميل إليها.

لقد نزلت الآية: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾.
إن نظام الإمامة والأمة، الذي هدفه إزالة الجاهلية، هو موضع فخر علي، ولكن هنا يقسم في الخطبة نفسها (205):
«وَاللهِ مَا كَانَتْ لِي فِي الْخِلَافَةِ رَغْبَةٌ».

فأيّ خلافة يقصد؟ تلك الخلافة الإلهية التي هي فضيلة، تلك الخلافة السماوية العرشية، لكنكم حوّلتموها إلى أمر أرضي، وحوّلتم الغدير إلى السقيفة، وصنعتم تلك الألاعيب. ثم قبلتُ بها لئلا تقع إراقة دماء ولئلا تحدث فتنة ومشكلات.

أتظنون أننا جئنا لهذا؟ كان الدم يتقاطر من سيفه وهو يقول: هذه جاهلية، هذه جاهلية، هذا فعل طلحة جاهلية، وهذا فعل الزبير جاهلية. تمزيق المجتمع، وسفك الدماء، والقتل والنهب، هذا هو الجاهلية.

لم يقل: هذا جهل، ولم يقل: هذا مخالف لظاهر آية، بل قال: هذه جاهلية، لقد عدتم إلى الجاهلية من جديد. مرارًا وتكرارًا، بعد وقعة صفّين وأمثالها، وكان الدم يقطر من سيفه، كان يقول: هذه جاهلية، هذه جاهلية. إن تخريب المجتمع وارتكاب هذه الأفعال هو عين الجاهلية، هو الجاهلية.

«والله إني لا أريدها».. «وَاللهِ مَا كَانَتْ لِي فِي الْخِلَافَةِ رَغْبَةٌ، وَلَا فِي الْوِلَايَةِ إِرْبَةٌ».
و«الإِرْبَة» تعني الحاجة. لقد قبلنا بهذا الأمر فقط لئلا تزداد إراقة الدماء وما شاكل ذلك. ولذلك يقول في هذه الكلمات القصار إن هناك حقًّا إلهيًّا جارٍ في هذا العالم وأنتم لا ترونه، فإذا وقفتم في مواجهة هذا الحق وأعرضتم عنه تضررتم وهلكتم: «مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ».

ويقول أيضًا: «مَنْ لَمْ يُنْجِهِ الصَّبْرُ أَهْلَكَهُ الْجَزَعُ».
فالأحداث لا تجري كلها وفق هوى الإنسان، بل لا بد له من الصبر والتحمل أيامًا حتى تؤتي الأمور ثمارها، ومن لم يكن من أهل الصبر والحلم، فإن الجزع يهلكه.

ثم قال: إنهم تركوا الغدير ونورانية الغدير، وقدموا السقيفة. وبماذا احتجوا؟ قالوا: نحن من أصحاب رسول الله. نعم، أنتم من أصحاب النبي، ولكن كيف جعلتكم مجرد الصحبة خلفاء، ونحن الذين نحن من أصحاب النبي أيضًا، بل ومن أقربائه وأرحامه وأهل بيته، لا نكون خلفاء؟!
أنتم احتججتم بالصحبة فصرتم خلفاء، ونحن الذين نجمع بين الصحبة والقرابة، أليس لنا حق؟!

ولهذا قال متعجبًا: «وَا عَجَبَاهُ! أَتَكُونُ الْخِلَافَةُ بِالصَّحَابَةِ وَلَا تَكُونُ بِالصَّحَابَةِ وَالْقَرَابَةِ؟»

أنتم، بحجة أنكم من أصحاب النبي، أقمتم أمر السقيفة، ونحن أيضًا من أصحاب النبي، ونحن من أقربائه وأهل بيته، ومن أسرة واحدة. نحن الذين صاحبناه من مكة إلى المدينة، وجمعنا بين الصحبة والقرابة. أنتم لا تملكون إلا الصحبة، فكانت سببًا في خلافتكم، أما نحن الذين نملك الصحبة والقرابة معًا فلا حق لنا؟! أهذا هو استدلالكم؟

ثم تمثل (عليه السلام) بهذين البيتين من الشعر:

«فَإِنْ كُنْتَ بِالشُّورَى مَلَكْتَ أُمُورَهُمْ
فَكَيْفَ بِهَذَا وَالْمُشِيرُونَ غُيَّبُ؟

وَإِنْ كُنْتَ بِالْقُرْبَى حَجَجْتَ خَصِيمَهُمْ
فَغَيْرُكَ أَوْلَى بِالنَّبِيِّ وَأَقْرَبُ»

أي:
إن كنتَ قد ملكتَ أمرهم بالشورى، فكيف يصح ذلك والمشيرون غائبون؟
وإن كنتَ قد احتججتَ عليهم بالقرابة، فغيرك أولى بالنبي وأقرب إليه.

أما العمدة فهو أن تكونوا واعين بأنكم جئتم اغتصبتم أمر الخلافة الذي كان أمرًا سماويًّا، وذلك الأمر السماوي، بطبيعة الحال، محفوظ في مكانه.

الوجود المبارك لصديقة الكبرى (سلام الله عليها) له مراتب كثيرة، ولكن حين تريدون أن تحسبوا مقامها الحقيقي، انظروا أين النبي؟ وأين علي (سلام الله عليه)؟ هناك تجدون فاطمة الزهراء.

المباهلة تعني المباهلة. أولًا، أيها السادة، أن تصبح عالمًا أو أن تقدم قولًا جديدًا ليس من الكبائر. أن تتصل بروح القرآن وتستنبط منه أمرًا ليس من الكبائر. يجب أن تسعوا وتجتهدوا لتخرجوا بحقائق جديدة، وأن تكونوا مع القرآن، وأن تنفذوا إلى جوهره، مثلما فعل العلامة الطباطبائي في استنباطه من القرآن.

الآن انظروا، فاطمة الزهراء، ما شأنها؟

فاطمة الزهراء، نقول عنها: دعاؤها مستجاب، مقربة من الخمسة الطيبة، لها عصمة، ولكن ماذا تستطيع أن تفعل؟ هل يمكنها أن تُقلب نظام العالم كله أم لا؟ لننظر الآن.

هذا المباهلة الذي استدلوا به، ماذا يعني؟ يعني أن ذات القدوس الإلهي قال: “قوموا بالمباهلة”. إذا جاء المسيحيون واستدلوا ولم يكن لدليلهم أثر، فلا بد في النهاية أن يُحل أمرٌ من الأطراف. لا يمكن أن تقولوا: “رأينا هكذا”، وأنتم تقولون: “رأيكم هكذا”. في النهاية، يجب أن يكون حكمٌ في العالم.

عندما جاء المسيحيون وأرادوا الجدال وجادلوا، هل يجب أن يُحسم الأمر من طرف واحد أم لا؟ سيادتكم تقولون: “رأينا هكذا”، هذا لا يكفي. يجب أن يكون القرار من طرف واحد.

فمن الذي يجعل الأمر من طرف واحد؟ هل هو مجرد الاستدلال العقلي بالكبرى والصغرى، أم هو وجود خارجي للأشياء؟

نزلت آية المباهلة لتقرر أن الأمر لا يُحسم على هذا النحو؛ ناقشوا واستدلّوا، فإن لم يقبلوا، ﴿فَقُل﴾ قولوا: نبتهل ونتلاعن. ولكن التلاعن يكون من قِبَل مَن؟ نحن نريد أن نقوم بعمل تتحرك به السماوات والأرض ويُستأصل به جذركم. ولكن مع مَن؟

قال الله سبحانه وتعالى: إن لنا خليفة يُدعى داود. هذا داود له صلاة جماعة؛ كما نقول للناس إن حضور صلاة الجماعة مستحب، صدر الأمر للجبال أن تتبع داود وتشارك في صلاة جماعته: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ﴾. هذا هو معنى خليفة الله. يُقال لسلسلة الجبال: لماذا تقفون؟ كلما أقام نبيّ الله داود صلاة الجماعة، فاذهبوا واشتركوا فيها: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ﴾. هذه هي القدرة المؤثرة.

وهذه القدرة بيد فاطمة، كيف ذلك؟ لأن الله سبحانه وتعالى قال للنبي:
﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَ أَبْنَاءَكُمْ وَ نِسَاءَنَا وَ نِسَاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنَا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ﴾.

كلمة «فَنَجْعَلْ» لها معنى خاص. أحيانًا يكون الإنسان مستجاب الدعاء، إنسانًا صالحًا يقول: «اللهم فلان»، أي: يا رب أنزل العذاب عليهم، يا رب أهلكهم، فينزل العذاب أو السيل؛ هذه مرتبة.

ولكن هنا الأمر مختلف؛ لسنا نقول: «اللهم اللهم اللهم»، بل: ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾؛ نحن نفعل ذلك.

من الذي يملك هذه القدرة؟ غير من يهيمن على الجبال، وعلى الأرض، وعلى الزمان؟ وهم علي وفاطمة والحسن والحسين. هل يوجد في القرآن غيرهم؟ لم يقل: نطلب من الله أن يُنزل العذاب. نعم، كثير من الأنبياء دعوا ولعنوا فهلكت أقوامهم، وهذه مرتبة صحيحة وهي استجابة الدعاء.

أما هنا، فنحن أنفسنا – بإذن الله – نقتلع جذورهم. هذه القدرة لمن؟ ﴿فَنَجْعَلْ﴾ تعني نجعل. ﴿لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾. هذه هي فاطمة.

وعليه، فكونُ الإنسان مستجابَ الدعوة في موضعه محفوظ، وهذه من المقامات النازلة. أمّا إذا قال الله سبحانه وتعالى لسلاسل الجبال: لماذا تقفون؟ اذهبوا وراء صلاة جماعة داود، فهذا قول الله. وهناك قول خليفة الله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾.

وكلمة «خليفة» صفة تُطلق على المرأة كما تُطلق على الرجل؛ فالتاء فيها ليست تاء تأنيث، بل تاء مبالغة. والخليفة بمعنى النائب. سواء كان رجلاً أو امرأة، يكون خليفةَ الله. وهذا الخليفة، بإذن الله، يقوم بعمل الله؛ يقول: ليأتِ السيل، لتأتِ الزلزلة، لتأتِ الصاعقة، وليُستأصل شأفتهم، فيُقال: نعم. هذه هي قدرة فاطمة، وهذه هي قدرة علي، وهذه هي قدرة الزهراء.

﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ﴾؛ هؤلاء يتكلمون يقينًا بإذن الله.

ولهذا كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يبذل جهدًا عظيمًا في حفظ ذلك المقام لئلا يُغتصب حقه. ومع ذلك، يقسم هنا أنه لا يرغب في هذه الخلافة السقيفية أصلًا، وإنما قبلها لئلا تقع إراقة للدماء. لا يليق بأمير المؤمنين أن يقبل بالخلافة السقيفية؛ فإن الخلافة الغديرية هي التي تليق به.

وفي هذا الموضع نفسه أقسم قائلاً: «وَ اللَّهِ مَا كَانَتْ لِي فِي الْخِلَافَةِ رَغْبَةٌ»؛ أي هذه الخلافة التي جاءت من السقيفة، أن أكون خليفة السقيفة، والله لا أريدها. قبلتها فقط لئلا يحدث سفك للدماء. أمّا ما جاء في قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، وما جاء في قوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ﴾، فهذا هو محبوب علي؛ فأين هذا من ذاك؟

وعليه، يجب أن ننتبه:
أولًا: «الخليفة» اسم يُطلق على المذكر والمؤنث.
ثانيًا: قد يكون من يتولى شؤون المجتمع خليفةً للناس، أي ممثلًا عنهم، كما هو حال الحكومات العادية في البلدان.
ثالثًا: وقد يكون خليفةً عن الله لإدارة الناس، كما هو شأن الأنبياء والأولياء والرسل.

والخليفة يقوم بعمل المُستخلف عنه. فإن كان خليفة الناس، فهو ممثل عنهم، وإن كان خليفة الله، فهو ممثل عن الله. وإذا كان ممثلًا عن الله، فإن أمره نافذ في الجبال والزمان والأرض. هذا هو معنى فاطمة. ولهذا قيل: استدلّوا بآية المباهلة.

لذلك قال: «لم يعرف فاطمة إلا نحن الخمسة»، وهذا صحيح أيضًا. التوسل إليهم بالتأكيد له أثر. أما إن كنا لا نملك هذه اللياقة فتلك مسألة أخرى.

عندما نقبل على الحرم ونسلم على بابه لأجل الأجر، بحيث ينالنا قدر من الأجر، فهذا موضوع آخر، يشبه الشخص الذي يذهب إلى البحر ويريد أن يأخذ منه فقط بمقدار جرّة محدودة، وهذا خسارة. عندما يزور الإنسان الحرم، يجب أن يطلب أكثر، لنفسه ولبلده وللأمة الإسلامية وللمجتمع الإسلامي، لكي ينقذ هذا البلد من كل خطر، وأن نمتلك توازنًا معقولًا يمكننا من الحفاظ على البلاد في جميع الأمور. إذا كان لدينا توازن معقول، سنكون مطمئنين في الاقتصاد، وسنكون مطمئنين في حل الاختلالات، وسنكون مطمئنين في الكهرباء، كل شيء سيكون متاحًا في هذا البلد. هذا بيان نوراني لحديث الإمام علي، نقله صاحب وسائل، حيث قال: «من وجد ماءً وترابًا ثم فقر فأبعده الله»؛ البلد الذي يملك الماء والتربة، ومع ذلك يواجه مشاكل اقتصادية.. نحن في هذا البلد نملك كل شيء.

لذلك يجب أن نعرف، في أيام ميلاد وجوده المبارك، ماذا نطلب وما هو مقام هؤلاء؟ عندما نزور الحرم، ماذا نطلب؟ وكيف نطلب؟ يجب أن نطلب لأجل بلدنا. العمل على محو الجهل في الحوزة والجامعة جيد، لكنه قليل، ومحاربة الجهل في الحسينيات والمراكز الدينية والمساجد جيد، لكنه قليل. عندما نعيش ضمن نظام الإمامة والأمة، يجب علينا محو الجهل. في هذا البلد، يجب ألا يكون هناك اختلاس، ولا مشاكل أخرى، كل شيء يجب أن يكون موجودًا، وكل شيء موجود بالفعل، ونحن نريد ذلك.

الإمامة تعني هذا. الإمامة لا تعني مجرد كون المرء معلمًا، فهذا عمل الحوزة والجامعة. الإمامة لا تعني مجرد كون المرء مربٍّ، فهذا عمل المسجد والحسينية وما إلى ذلك، بل الإمامة تعني نظامًا يزيل الجهل، لا الجهل الحوزوي أو جهالة المساجد فقط.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل