امتلأت صفحات التاريخ بنساءٍ كثيرات، ولكن هل وُجدت امرأةٌ كفاطمة، خيرُ النساء؟
إنّ السيّدة فاطمة الزهراء (ع) هي ثمرةُ تربيةِ مدرسةِ النبيّ الأعظم (ص)، وقد تجلّت فيها القدوة بكلّ معانيها في ميادين: محبّة الله وعبادته، وطاعة الأب، وحسن التبعّل، وتربية الأبناء، وإدارة شؤون البيت، وخدمة الناس، والحجاب والعفاف، وكذلك في أداء الأدوار السياسية والاجتماعية وغيرها في المجتمع.
إنّها نموذجٌ إنسانيٌّ كاملٌ لكلّ أفراد الأمّة الإسلامية، ولا سيّما لنساء العالم. ومن هنا، فإنّ الحديث عن أبعاد شخصيّة الزهراء (ع) ضرورةٌ تستحقّ الوقوف عندها.
الأهمّيّة والضّرورة
إنّ كلّ موجودٍ في هذا العالم هو مظهرٌ لاسمٍ من أسماء الله الحسنى، وآيةٌ من آيات وجوده؛ ومع ذلك، يبقى في نظام الخلق كلّه أنّ الاسم الأعظم والآية الكبرى لله هو الكائن القدسي: الإنسان الكامل. وكانت السيّدة فاطمة الزهراء (ع) أظهر مصاديقه وأجلاها.
ومن جهة أخرى، يبيّننا الدعاء المأثور عن الإمام العسكري عليه السلام: «اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي». (البحار ج53 ص187)
إنّ معرفة حجّة الله ضرورةٌ روحية ودينية، فهي النور الهادي لمسيرة المؤمن في شؤون حياته الإيمانية.
كما قال الإمام المهديّ عليه السلام: «وفي ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله لي أسوة حسنة». (البحار ج53 ص180)
ورغم أنّ الإحاطة بجميع أبعاد شخصية الزهراء(ع) أمرٌ يفوق الطاقة البشرية، فإنّ مجرّد التأمّل في بعض ساحات وجودها كفيل بأن يصنع الهداية ويغيّر المصير. لذا يشير هذا المقال إلى نماذج من تعاليمها في العبودية وأسلوب الحياة ، لتكون نبراساً للجميع، ولا سيّما للنساء، في تعلّم معنى العبودية لله ومعنى الحياة الكريمة من مدرستها المباركة.
مظاهر العبودية وتجليات الحياة الإلهية
١- قدوة العبادة والعبوديّة
إنّ حديث العبادة في شأن فاطمة الزهراء(ع) لا تستوعبه الألفاظ، ولا تبلغه العبارات؛ فهي -بعد رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع)- أكمل مظهرٍ للعبوديّة والخضوع، حتى كانت إذا قامت إلى الصلاة غاصت في جلال الله، وذابت في عظمته، حتى يضطرب نفسها ويضيق تنفّسها. وقد ورد في الروايات:
«وَكانَتْ فاطِمَةُ(ع) تَنْهَجُ فِي الصَّلاةِ مِنْ خِيفَةِ اللهِ تَعالى». (البحار ج67 ص400)
أي كانت في الصلاة تضطرب أنفاسها من شدة خشيتها لله تعالى.
وكان رسول الله (ص) يصف عبادتها فيقول: «متى قامت في محرابها بين يدي ربها جل جلاله زهر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله عز وجل لملائكته، يا ملائكتي، انظروا إلى أمتي فاطمة سيدة إمائي قائمة بين يدي، ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي..». (البحار ج43 ص172)
وروي عن الحسن البصري قوله:
«ما كان في هذه الأمّة أعبدُ من فاطمة؛ كانت تقوم حتى تتورّم قدماها». (البحار ج83 ص84)
في إشارةً إلى شدّة إقبالها على العبادة، وانقطاعها الكامل لربّها عزّ وجلّ.
وجاء في حديث لرسول الله (ص) في فضل عبادتها:
«وإنها لتقوم في محرابها، فيسلم عليها سبعون ألف ملك من الملائكة المقربين، وينادونها بما نادت به الملائكة مريم فيقولون: يا فاطمة، إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين». (بحار الأنوار ج43 ص24)
٢– قدوة في الحياة الزوجية
سأل رسولُ الله (ص) أميرَ المؤمنين (ع) بعد مضيّ مدّة على زواجه من فاطمة الزهراء (ع): «كيف وجدتَ أهلك؟»
فقال (ع): «نِعْمَ العَوْنُ على طاعةِ الله»؛ أي أنّها خيرُ معينٍ لي على عبادة الله وطاعته.
ثمّ وجّه النبيّ السؤال نفسه إلى فاطمة (ع) فقالت: «نِعْمَ البَعْلُ». أي إنّه أفضلُ الأزواج وأكملهم. (البحار ج43 ص117)
عندما دخلت السيدة فاطمة (ع) بيت علي (ع) زوجةً له، كانت الظروف في غاية القسوة
حين خطَتْ سيّدةُ نساء العالمين فاطمة الزهراء (ع) إلى بيت أمير المؤمنين علي (ع) زوجةً ورفيقة درب، كانت الأوضاع في المجتمع الإسلامي شديدة الاضطراب، وخصوصاً في حياة هذه الأسرة المباركة.
فمن جهة، كان جيش الإسلام على الدوام في حالة استعداد للقتال، وكانت الحروب تتجدد كل عام مرة أو مرات، وكان عليٌّ (ع) في أغلب تلك المعارك قائداً مقداماً ومقاتلاً متقدّم الصفوف. وكان إذا عاد من ميادين الجهاد والدفاع عن الإسلام، لا يحمل معه شيئاً سوى جراحٍ نازفة وثيابٍ ممزّقة قد خضّبتها الدماء.
وفي مثل هذا المناخ العسير، كانت فاطمة (ع) هي السند والملجأ؛ تضمّد جراحه، تغسل ثياب الحرب الملطّخة بالدم، وتثني على شجاعته وتضحياته، لتبعث في نفسه الطمأنينة وتشدّ عزيمته لمواجهة ما يستقبل من أيام الجهاد.
أما حال المعيشة، فكان أشدّ ضيقاً. ففي السنوات الأولى للحياة الزوجية، كان عليٌّ (ع) يعمل عملاً شاقاً في نخيل المدينة وبساتينها، ومع ذلك كان يُضطر أحياناً إلى الاستدانة ليؤمّن قوت يومه، بل وتمرّ أيام يخلو فيها البيت من الطعام.
وكان إذا عاد مُتعباً مُجهَداً من عناء العمل، أزال حنانُ فاطمة (ع) ونُبلُ رعايتها كلَّ آثار المشقة عن قلبه وروحه.
وقد لخّص الإمام علي (ع) هذا المستوى الرفيع من الأخلاق الزوجية في كلمات خالدة، فقال: «فوالله ما أغضبتها ولا أکرهتها على أمر حتى قبضها الله عز و جل إليه، ولا أغضبتني، ولا عصت لي أمرا، ولقد کنت أنظر اليها فتنکشف عني الهموم والأحزان». (بحارالأنوار ج43 ص134).
وما أعمق هذه العبارة الأخلاقية البالغة: «كنتُ أنظر إليها فتنكشف عنّي الهموم والأحزان».
إنها شهادةٌ من إمامِ العارفين على أن فاطمة (ع) كانت سكينة البيت، وراحة القلب، وأنس الروح، حتى كان النظر إليها يبدّد الكرب ويُذهب الحزن.
٣- الزهد والشكر
يُعدُّ الزهد والبساطة أحد أبعاد حياة السيّدة فاطمة الزهراء (ع)، وهو نموذج قدوة ناجح لأسلوب حياة جميع النساء.
قال الإمام الخميني (قدّس سرّه):
“فقد كان لدينا كوخ في صدر الإسلام يضم أربعة أو خمسة أشخاص. إنه كوخ فاطمة الزهراء سلام الله عليها. وكان هذا الكوخ أكثر تواضعاً من غيره. ولكن ما هي بركاته؟ لقد ملأت بركاته بنورها العالم بأسره. إن سكنة هذا الكوخ المتواضع كانوا على درجة من المعنويات لا ترقى إليها حتى يد الملكوتيين”.
هذا الكلام يوضح كيف أن التواضع والزهد لا يقللان من عظمة الإنسان أو منزلته الروحية، بل بالعكس، فإن البساطة المتجذرة في العبادة والرضا تُثمر نورانية وبركات تغمر العالم.
بساطة حياة فاطمة الزهراء (ع) وحرصها على العمل والعبادة
ذات يوم رأى النبي (صلى الله عليه وآله) فاطمة وعليها كساء من أجلة الإبل، وهي تطحن بيديها وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا بنتاه، تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة. فقالت: يا رسول الله، الحمد لله على نعمائه، والشكر لله على آلائه. فأنزل الله: ﴿ولسوف يعطيك ربك فترضى﴾. (بحارالأنوار ج43 ص86)
هذا المشهد يبيّن كيف كانت حياة فاطمة الزهراء (ع) نموذجاً للتوازن بين العمل، الرعاية الأسرية، والزهد في الدنيا، مع الثبات على الشكر والرضا، معبرةً عن صفاء الروح وارتفاع المقام الروحي رغم بساطة العيش.
٤- تقسيم العمل في البيت
روى الإمام الباقر (ع) أن أمير المؤمنين علي (ع) وفاطمة الزهراء (ع) ذهبا إلى حضور رسول الله (ص) لطلب التوجيه حول كيفية تعزيز التفاهم والتعاون داخل الأسرة. فوكل أعمال المنزل الداخلية إلى فاطمة الزهراء (ع)، وأعمال الخارج إلى علي (ع).
بعد هذا التوجيه الحكيم، عبّرت فاطمة الزهراء(ع) عن فرحتها قائلة: “فلا يعلم ما داخلني من السرور إلا الله بإكفائي رسول الله ص تحمل رقاب الرجال. (بحارالأنوار ج43 ص81)
وعليه، يمكن اعتبار حياة فاطمة الزهراء(ع) البسيطة نموذجاً يُحتذى به في تقسيم الأعمال المنزلية بروح التعاون والحكمة. كما قال قائد الثورة الإسلامية: “بساطة حياة ابنة الرسول تمثل نموذجاً للمرأة المعاصرة في مجتمعنا. علينا التخلي عن روح الاستهلاك المفرط والاكتفاء بما هو ضروري في حياتنا، وترك الطموحات الصغيرة والتافهة فداءً للقيم الكبرى. ويمكن مشاهدة المثال الكامل لذلك في حياة فاطمة الزهراء(ع) في التاريخ”.
٥- التواضع والتعاطف مع الزوج
كانت فاطمة الزهراء (ع) تكنّ لزوجها الكريم علي (ع) محبةً عميقةً، وتتمتع بروح التعاطف والتفاهم معه، إلى درجة أنه عندما جاء بعض غاصبي الخلافة بعد أحداث سقيفة بني ساعدة وفدك لطلب مقابلتها، سألها الإمام علي(ع) عن دخولهما عليها.
فردت فاطمة الزهراء (ع) بكل تواضع، رغم كل الحزن والمرارة التي كانت تشعر بها تجاههم، قائلة:
“البيت بيتك، والحرّة زوجتك، افعل ما تشاء”. (بحار الأنوار ج28 ص303)
وفي أحد أيام الشدة، أصبح علي ابن أبي طالب (عليه السلام) ذات يوم ساغبا، فقال: يا فاطمة هل عندك شئ تغذينيه؟
قالت: لا والذي أكرم أبي بالنبوة وأكرمك بالوصية ما أصبح الغداة عندي شئ، وما كان شئ أطعمناه مذ يومين، إلا شئ كنت أؤثرك به على نفسي وعلى ابني هذين الحسن والحسين. فقال علي: يا فاطمة ألا كنت أعلمتيني فأبغيكم شيئا؟ فقالت: يا أبا الحسن، إني لأستحيي من إلهي أن أكلف نفسك ما لا تقدر عليه”. (بحارالأنوار ج43 ص59)
٦- حفاظ حرمة العفة والحياء
من أجمل الدروس التي غرستها فاطمة الزهراء (ع) في قلوب النساء، أهمية الحفاظ على العفة والحجاب.
روي عن علي (عليه السلام) قال: استأذن أعمى على فاطمة (عليها السلام) فحجبته، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لها: لم حجبتيه وهو لا يراك؟
فقالت (عليها السلام): إن لم يكن يراني فإني أراه، وهو يشم الريح.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أشهد أنك بضعة مني. (بحارالأنوارج43 ص91)
٧- لم تغضب فاطمةُ علیها السلام زوجها عليّاً عليه السلام قطّ
لقد عاشت فاطمةُ الزهراء (ع) طوال حياتها الزوجية مع أمير المؤمنين (ع) حياةً ملؤها الطاعة والمودّة، فلم يصدر عنها ما يغضبه أو يكدر صفوه. وفي لحظات الوداع الأخيرة، التفتت إليه وقالت:
«يا ابن عم، أنه قد نعيت إليَّ نفسي وإنني لأرى ما بي لا أشك إلا أنني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة، وأنا أوصيك بأشياء في قلبي».
قال لها علي (ع) : «أوصيني بما أحببت يا بنت رسول الله»، فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت.
ثم قالت: «يا ابن عم ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني»؟
فقال (ع) : «معاذ الله أنت أعلم بالله وأبر وأتقى وأكرم وأشد خوفاً من الله أن أوبخك غداً بمخالفتي.. (روضة الواعظين ج1 ص150)
٨- نموذج الصمود والمقاومة
بعد زواجها من أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، لم تتوانَ فاطمة الزهراء (ع) عن بذل الجهد في الدفاع عن زوجها ومقام الإمامة، وظلت إلى آخر لحظة ثابتة في نصرة الإمام (ع) والحفاظ على الطريق النوراني للولاية. بهذا الصمود الفريد، قدّمت الزهراء (ع) نموذجًا كاملًا للاتباع الأمين لولي الزمان والثبات على نهج الحق لكل المسلمين.
كما أنّ استقامتها في مواجهة الظلم علّمت جميع المسلمين عبر التاريخ أن رفض الظلم ومواجهة الانحراف واجب شرعي وضرورة دينية، إذ لم يترك الله للبشر مجالًا للتسليم للظالمين، فقال سبحانه: «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُم مِن دُونِ اللَّهِ مِن أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ».
٨- رمز كلّ الفضائل
قال آية الله جوادي آملي:
لقد بلغت فاطمة الزهراء (ع) مقام الخلافة الإلهية المنيعة بفضل وعيها بأسماء الله الحسنى؛ إذ اجتمعت فيها جميع العناصر المحورية للخلافة في هويتها. فقد جمعت بصورة متكاملة ما جاء في آل عمران والتطهّر، وأحزاب ومودّة الناس التي هي جزاء الرسالة، فضلاً عن الإيثار وإطعام المساكين واليتامى والأسرى في «هل أتى»، وختامًا بـ «كوثر» الإلهي. لقد كانت كائنًا جامعًا يستحق نزول أمين الوحي جبريل (عليه السلام) عليه، واستلام المصحف الذي يحتوي على ما مضى وما هو حاضر، والغيب والشهادة معًا. إن إدراك جوهر مثل هذا الإنسان الكامل والجامع أمر صعب المنال.
ويضيف قائد الثورة الإسلامية:
«فاطمة الزهراء (ع) فجرٌ متلألئ، منه أشرقت شمس الإمامة والولاية والنبوة. إنها سماء عليا ورفيعة، يحتضن في أحشائها نجوم الولاية المتلألئة».
ترجمة : مركز الاسلام الأصيل





