في افتتاحيّة معهد الدراسات الكلاميّة التابع لمؤسّسة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)..آية اللّه العظمى السبحانيّ يؤكّد على ضرورة التمتّع بالاستقلال الفكريّ والعلميّ وعدم تأثّر المجتمع بالتغرّب

وكالة أنباء الحوزة – أقيمت مراسم الافتتاح والبداية الرسميّة لأنشطة معهد الدراسات الكلاميّة التابع لمؤسّسة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، صباح يوم الخميس 18 ديسمبر 2025، في قاعة الاجتماعات التابعة للمؤسّسة بمدينة قم.

وخلال هذه المراسم، أشار المرجع الدينيّ، سماحة آية اللّه الشيخ جعفر السبحانيّ إلى الطبيعة المزدوجة للإنسان، مستعرضًا رؤية الإسلام حول السموّ الفكريّ والأخلاقيّ.التأكيد على البعدين الفكريّ والغريزيّ للإنسان في الرؤية الإسلاميّةوأشار آية اللّه السبحانيّ إلى قوله تعالى ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 20-21]، موضحًا أنّ الإنسان يتكوّن من جانبين أساسيّين: جانب التفكير وجانب الغرائز.

وأضاف أنّ الفلاسفة يهتمّون بالجانب الفكريّ ويصفون الإنسان بـ«الحيوان الناطق»، فيما يركّز علماء الأخلاق على جانبه الأخلاقيّ. أمّا الإسلام فيولي اهتمامًا متوازنًا لكلا الجانبين الفكريّ والأخلاقيّ معًا.

واستشهد سماحته كذلك بقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190]، وقوله: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: 6-7]، مؤكّدًا أن المدرسة الإسلاميّة الشاملة هي التي تراعي كلا الجانبين؛ فتعمل على تنمية الجوانب الفكريّة، وفي الوقت ذاته، تهذّب الغرائز وتقودها نحو المسار الصحيح.

البحوث المؤثّرة؛ المعيار الأساسيّ للتحقيقات الحوزويّة

ولفت هذا المرجع الدينيّ إلى أنّ رسالة هذا المعهد الجديد لمؤسّسة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، ترتبط بالجانب الأول وهو جانب التفكير والبحث، مؤكّدًا أنّ البحث العلميّ يجب أن ينطلق من اختيار موضوعاتٍ قادرةٍ على إحداث أثرٍ فعليٍّ في المجتمع وتقديم فائدةٍ حقيقيّةٍ له. وأضاف أنّ الموضوعات التي لا تسهم في الارتقاء الفكريّ للمجتمع أو لا تمثّل حاجةً راهنةً، ينبغي أن توضع في مراتب لاحقةٍ من حيث الأولويّة، مشدّدًا على ضرورة أن تكون الأبحاث مثمرةً على المستويين المعنويّ والمادّيّ.

لزوم الاهتمام المتزامن بالعلوم الطبيعيّة والمعنويّة في الأبحاث الدينيّة

وتطرّق هذا الأستاذ في الحوزة العلميّة بقم إلى سعة نطاق البحث في الإسلام، مبيّنًا أنّه يجب على كلّ مفكّرٍ وباحثٍ أن يتأمّل في القضايا الطبيعيّة ويعمل على ارتقاء العلوم الطبيعيّة، وبالتوازي مع ذلك، يتناول القضايا المعنويّة من منظورٍ علميٍّ وفكريٍّ؛ لذا فإنّ محور التفكير والبحث يجب أن يشمل كلا الجانبين، دون إهمال أيٍّ منهما: المباحث الطبيعيّة والجوانب المعنويّة والفكريّة.

التقدّم الحقيقيّ رهين الاهتمام بالعلوم الطبيعيّة استنادًا إلى الأسس القرآنيّة وتجنّب التغرّب

وأشار آية اللّه السبحانيّ إلى الغفلة التاريخيّة للمسلمين في القرون الأولى عن المفاهيم الطبيعيّة في القرآن الكريم، مؤكّدًا أنّ التقدّم الحقيقيّ لأيّ مجتمعٍ يتوقّف على التوجّه الواعي نحو الطبيعة والاستفادة الصحيحة منها.

واستشهد سماحته بالآيات القرآنيّة المليئة بالإشارات إلى الظواهر الطبيعيّة، معربًا عن أسفه لقلّة التفات المسلمين في العصور الأولى إلى الجوانب الطبيعيّة والعلميّة لهذه الآيات، رغم أنّ القرآن الكريم يتناولها بشكلٍ موسّعٍ، مبيّنًا أنّ تقدّم المجتمع يتطلّب التوجّه نحو الطبيعة وتسخيرها لتحسين حياة الإنسان.

التحذير من التقليد الأعمى للغرب والتأكيد على الثقة بالذات الفكريّة

واعتبر هذا المرجع الدينيّ التوجّه العلميّ والأصوليّ شرطًا أساسًا للتقدّم، كما حذّر من الانبهار بالغرب، مؤكّدًا أنّ الدخول إلى الساحة العلميّة يجب أن يتمّ عبر المسارات الصحيحة، مضيفًا أنّ الأمّة الإسلاميّة تمتلك مبادئ فكريّةً رصينةً خاصّةً بها، ما يفرض ضرورة التمتّع بالاستقلال الفكريّ والعلميّ، والنأي بالمجتمع عن التأثّر بموجات التغرّب.

إعادة قراءة التراث الفكريّ الإسلاميّ ونقد التقليد المحض

وأشار آية اللّه السبحانيّ إلى بعض النماذج من تاريخ الفلسفة الغربيّة، موضحًا أنّ الغربيين يمجّدون ديكارت الذي كانت نقطة انطلاقه هي الشكّ المطلق، في حين أنّ هذا المفهوم قد طُرح سابقًا في آثار الفلاسفة المسلمين بشكلٍ أعمق وأدقّ؛ ممّا يحتّم علينا سلوك المسارات التي أرساها الفكر الإسلاميّ في مجال الفلسفة والتفكير.

وأكّد سماحته أنّ إعادة قراءة التراث العلميّ والفلسفيّ الإسلاميّ قراءةً نقديّةً، مع التوجّه المتزامن نحو العلوم الطبيعيّة في إطار الأسس القرآنيّة، يمثّل الاستراتيجيّة الأساسيّة للتقدّم الشامل.

ثروتا الحياة والعقل؛ حديقتان يجب استثمارهما علميًّا

وأوضح آية اللّه السبحانيّ أنّ الإنسان يمتلك ثروتين عظيمتين هما الحياة والعقلانيّة، وكما تُجنى الثمار من الشجر، يجب جني الثمار العلميّة والعمليّة من هاتين الثروتين. وأضاف أنّ المجتمعات المعاصرة لم تتمكّن من استثمار هذه الإمكانات بشكلٍ مطلوبٍ في مجالي العلوم الطبيعيّة والعقليّة.

القرآن الكريم؛ كتابٌ يهدي إلى التفكير

ووصف أستاذ دروس البحث الخارج في الحوزة العلميّة بقم القرآن الكريم بأنّه الكتاب الذي يهدي إلى التفكير المؤثّر، مستشهدًا بقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 164]. وأوضح أنّ القرآن الكريم لا يكتفي بذكر الظواهر الطبيعيّة فحسب، بل يبيّن «منهج» التفكير فيها و«النتيجة» المتوخّاة منها وهي التوحيد ومعرفة اللّه، مؤكّدًا أنّ المؤمنين الحقيقيّين هم من يقطعون هذا المسار التفكيريّ والاستنتاجيّ بشكلٍ كاملٍ.

تحديد أولويّات القضايا الملحّة للأمّة الإسلاميّة من قبل الباحثين

ووجّه هذا المرجع الدينيّ خطابه للأساتذة والباحثين، داعيًا إيّاهم إلى اختيار موضوعاتٍ للبحث تشكّل «تحدّيًا» للمجتمع الإسلاميّ في الوقت الراهن أو المستقبل القريب، مع تأجيل المسائل التي لا تتّسم بالأولويّة الفوريّة إلى وقتٍ آخر.

التحدّيات الراهنة؛ من شبهات الوهّابيّة إلى الحرب الناعمة في الفضاء الافتراضيّ

وأشار آية اللّه السبحانيّ إلى نماذج عينيّةٍ لهذه التحدّيات، مبيّنًا أنّ المجتمع اليوم يواجه ضغوطًا من التيارات المتطرّفة كالوهّابيّة التي ترفض جزءًا من المعارف الإسلاميّة الأصيلة بتفسيراتٍ منحرفةٍ، فضلًا عن الشبهات الواسعة المنشورة عبر الإنترنت، مؤكّدًا أنّ هذه المسائل تمثّل موضوعاتٍ بحثيّةً ملحّةً وضروريّةً تستوجب التركيز والبحث المعمّق.

وفي ختام كلمته، أعرب سماحته عن أمله في أن تؤدّي البحوث الحوزويّة الهادفة إلى نتائج ملموسةٍ يستفيد منها المجتمع الإسلاميّ بشكلٍ واقعيٍّ.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل