سردية التقدّم»؛ كيمياء العمل الثقافي والإعلامي في الزمن الراهن.

سردية التقدّم»؛ كيمياء العمل الثقافي والإعلامي في الزمن الراهن.

تُعَدّ «سردية التقدّم» اليوم من أكثر المفاهيم حضورًا وأهمية في ميدانَي العمل الثقافي والإعلامي، بوصفها الإطار الذي يَعرض المسار الحقيقي لحركة الثورة الإسلامية نحو غاياتها الحضارية، لا على هيئة دعاية أحادية منزوعة العقلانية، ولا عبر السقوط في مستنقع التهويل والتشاؤم وتغليب خطاب السواد.

وقد أكّد قائد الثورة الإسلامية، في مناسبات متعدّدة خلال السنوات الأخيرة، على وجود ضعفٍ ملحوظ في تقديم سردية متماسكة للتقدّم، موجّهًا نقده بالأساس إلى المسؤولين والقائمين على الشأن العام، ثم إلى النخب والفاعلين الثقافيين والإعلاميين. ذلك أنّ التقدّم الذي لا يَبلغ وعي المجتمع ولا يُدرَك إدراكًا عامًا، لا يمكن أن يُنتج عزّةً وطنية، ولا أن يعزّز الأمل، ولا أن يسهم في إعادة إنتاج رأس المال البشري. ومع التسليم بصعوبة الظروف الاقتصادية الراهنة وتصاعد معدّلات التضخّم، تبقى مهمة سرد التقدّم وإقناع الرأي العام مهمةً شائكة ومعقّدة، لكنها في الوقت نفسه ضرورة لا غنى عنها.

مفهوم سردية التقدّم

ترى الدكتورة سيدة فاطمة سيدمدلّل‌كار أنّ سردية التقدّم تعني، قبل كل شيء، سردَ مسارٍ مليء بالصعود والهبوط؛ أي إبراز الحركة المتّجهة إلى الأمام، رغم ما يكتنفها من صعوبات وإخفاقات جزئية. فعندما يترسّخ لدى الرأي العام إدراكٌ بأن المجتمع يسير إلى الأمام، فإن المشكلات والنقائص والتوقّفات المرحلية لا تُفسَّر بوصفها انهيارًا أو تراجعًا، بل تُقرأ قراءةً واقعية تُفضي إلى الأمل والعمل على التعويض والإصلاح.

وتستشهد في هذا السياق بقول قائد الثورة الإسلامية في لقائه الأخير مع المدّاحين، حيث أشار إلى أنّ البلاد، رغم كثرة النواقص، ماضية في طريق التقدّم، وأنّ التحوّلات الكبرى بطبيعتها تدريجية وطويلة الأمد، فلا تُدرَك دفعةً واحدة، لكنها تتراكم حتى تفضي إلى الارتقاء المجتمعي بعونٍ إلهي.

وتؤكّد سيدمدلّل‌كار أنّ «سردية التقدّم» من المفاهيم المفتاحية التي شدّد عليها قائد الثورة في الأعوام الماضية، وغايتها الأساسية هي إظهار المسار الواقعي لحركة الثورة الإسلامية نحو أهدافها الحضارية، بعيدًا عن المبالغة الدعائية من جهة، وعن التهويل والتشاؤم من جهة أخرى.

الصدق والواقعية ركيزتان أساسيتان

من المرتكزات التي أكّد عليها قائد الثورة في مقاربة سردية التقدّم—ولا سيما في مطالبه الموجّهة إلى الإعلام الملتزم—التشديد على الصدق والواقعية. فهذه السردية ينبغي أن تكون توصيفًا أمينًا للواقع، تُبرز منجزات البلاد بإنصاف، ولا تُغفل في الوقت نفسه مواطن الضعف والقصور. إذ إنّ التقدّم، في جوهره، حركة مستمرّة، وأيّ تناولٍ إعلامي له ينبغي أن يتجنّب الوقوع في فخّ التهويل أو الإنكار. وقد شدّد القائد في إحدى كلماته على ضرورة رؤية الضعف والبركات معًا، مع الحذر من السماح لحملات الخصوم بحجب الحقائق الإيجابية.

أولوية السرد المساري لا المناسباتي

وتلفت سيدمدلّل‌كار إلى أنّ سردية التقدّم يجب أن تُعنى بالمسار التاريخي والتحوّلي للثورة، لا بالاكتفاء بعرض أرقام متفرّقة أو مشروعات معزولة. ففي مجالات العلم والتقنية، والأمن، والعدالة، تحقّقت—رغم التحدّيات—نجاحات مهمّة، غير أنّ الأهم هو تقديم هذا التحوّل في سياقه التاريخي منذ انتصار الثورة إلى اليوم، وبأسلوبٍ مهنيّ قادر على ترسيخ وعيٍ جمعيّ بمسار النموّ الوطني.

صناعة الأمل بعقلانية ثورية

من جانبه، يرى حجّة الإسلام حبيب بابائي، الباحث والمدرّس في حوزة قم، أنّ الجهاد الأهم في المرحلة الراهنة هو جهاد صناعة الأمل، لكن ضمن إطار من العقلانية الثورية، لا عبر أملٍ زائف سرعان ما يرفضه المتلقّي الواعي. ويستشهد بكلام قائد الثورة الذي يعرّف سردية التقدّم بأنها بثّ الأمل عبر إظهارٍ واقعيّ لمظاهر نموّ البلاد، مؤكّدًا أنّ الأمل هو محرّك حركة الأمم.

مركزية البعد الشعبي

ويضيف بابائي أنّ مردميّة السردية عنصرٌ لا يجوز إغفاله؛ فلا يكفي تداول خطاب التقدّم في القاعات الرسمية والمنابر، بل ينبغي أن يُروى بلسان الناس ومن خلال تجاربهم المعيشة، ولا سيما تجارب الشباب المؤمن والفاعل. فالسرديات المحلية والملموسة أثبتت قدرتها على تعميق فهم المجتمع لمعنى التقدّم.

ويحذّر من أنّ الخصم، في إطار «حرب السرديات»، يسعى إلى تضخيم المشكلات وتقزيم الإنجازات، بينما تعني سردية التقدّم استعادة ساحة التبيين من الخطاب المعادي، بلغةٍ عقلانية وثقافية، لا عبر مواجهة انفعالية.

أفق حضاري جامع

ويخلص بابائي إلى أنّ هذه السرديات ينبغي أن تتصل بالأفق الاستراتيجي لـ«إيران القوية»، وأن تُمهّد لتحقيق مشروع الحضارة الإسلامية الحديثة، وهو الهدف الكلّي الذي أكّد عليه قائد الثورة مرارًا.

تقرير: سيد محمد مهدي موسوي

للمشاركة:

روابط ذات صلة

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل