هل يُشترط إحراز «المصلحة الأهم» من قبل وليّ أمر المسلمين للدخول إلى منطقة الفراغ؟
فإن كان الجواب بالإيجاب، فإن هذا الضابط لن يختصّ بالأحكام غير الإلزامية، بل سيجري بعينه في الأحكام الإلزامية أيضاً، حيث إنّ المصلحة الأهم قادرة على رفع الحكم الإلزامي عند التزاحم.
وإن كان الجواب بالنفي، فإن القبول بتغيير الحكم الشرعي من دون مصلحة راجحة سيكون مخالفًا للمباني العقلية والفقهية المستقرّة.
أفاد مراسل شبكة الاجتهاد أنّ ندوة علمية بعنوان:
«الدراسة النقدية لنظرية منطقة الفراغ عند الشهيد الصدر وآثارها في التقنين»
عُقدت ضمن فعاليات المدرسة البرلمانية الثامنة التابعة لمركز البحوث الإسلامية في مجلس الشورى الإسلامي، بحضور جمع من الفضلاء وطلبة العلوم الدينية في جامعة العلوم الإسلامية الرضوية.
وقد تولّى إلقاء المحاضرة حجّة الإسلام والمسلمين محمد جواد أرسطا، أستاذ البحث الخارج في الفقه والأصول بالحوزة العلمية في قم، وعضو الهيئة العلمية بجامعة طهران، حيث تناول بالنقد والتحليل مختلف أبعاد هذه النظرية، وناقش مدى اتساقها مع التحدّيات المعاصرة في مجال التشريع.
منطقة الفراغ: إعادة قراءة لمفهوم قديم في قالب جديد
استهلّ الأستاذ أرسطا كلمته بالإشادة بالعبقرية الفذّة للشهيد آية الله السيد محمد باقر الصدر، مؤكّدًا أنّ مصطلح «منطقة الفراغ» يمثّل ابتكارًا في الصياغة الاصطلاحية أكثر من كونه تأسيسًا جديدًا في البنية الفقهية.
وبيّن أنّ الجذور الفكرية لهذا المفهوم يمكن تتبّعها في كتابات أعلام مثل:
الميرزا النائيني في تنبيه الأمة،
العلامة الطباطبائي (قده)،
الشهيد مطهري (قده) في بحث الإسلام ومقتضيات الزمان،
وكذلك في آراء آيات الله العظام سبحاني ومكارم الشيرازي.
وأوضح أنّ المقصود بمنطقة الفراغ ليس الخلوّ من الحكم الشرعي مطلقًا، بل الخلوّ من الحكم الإلزامي (الوجوب والحرمة)، مع بقاء الأحكام غير الإلزامية من استحباب وكراهة وإباحة بالمعنى الأخص.
وقد فوّض الشارع المقدّس لوليّ الأمر صلاحية سنّ أحكام إلزامية في هذا النطاق، بما يضمن قدرة الشريعة على مواكبة التحوّلات الزمانية والمكانية.
وأشار أرسطا إلى أنّ استناد الشهيد الصدر إلى قوله تعالى:
﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ [النساء: 59]
يكشف عن رؤيته الواسعة لصلاحيات الحاكم الشرعي، إذ لم يحصر مفهوم «أولي الأمر» بالمعصومين، بل وسّعه ليشمل الفقهاء الجامعين للشرائط في عصر الغيبة، وهو ما له جذور راسخة في الفقه الجواهري.
الإشكال الأول: معضلة «المصلحة الأهم»
خصص الأستاذ أرسطا المحور الرئيس من محاضرته لعرض إشكالين أساسيين على نظرية منطقة الفراغ.
تمحور الإشكال الأول حول معيار تدخّل وليّ الأمر في هذا المجال، وطرح السؤال التالي:
هل يشترط لإلزام حكم غير إلزامي إحرازُ مصلحةٍ أهم؟
فإن قيل بالإيجاب، فإن هذا المبدأ لا يختصّ بالأحكام غير الإلزامية؛ إذ إنّ الفقه الإمامي يقرّر أنّ الحكم الإلزامي نفسه يُرفع عند التزاحم مع مصلحة أهم.
وضرب مثالًا ببحث التترّس في كتاب الجهاد، حيث يُقدَّم حفظُ نفوس جماعة أكبر من المسلمين (المصلحة الأهم) على وجوب حفظ نفوس مجموعة استُخدمت دروعًا بشرية.
وعليه، فإن جعل المصلحة الأهم ضابطًا للتشريع لا يبرّر حصر النظرية بمنطقة الفراغ.
أمّا إن قيل بعدم اشتراط المصلحة الأهم، والاكتفاء بمصلحة أدنى، فإن الإشكال يصبح أشدّ؛ إذ إنّ جميع الأحكام الشرعية – حتى غير الإلزامية – قائمة على مصالح ومفاسد واقعية.
فكيف يمكن عقلًا وفقهًا ترجيح مصلحة غير راجحة على مصلحة كانت أساسًا لحكم شرعي سابق؟
الإشكال الثاني: إغفال «مقاصد الشريعة»
الإشكال الثاني يتعلّق بضابط ملء منطقة الفراغ.
فقد لاحظ الأستاذ أرسطا أنّ الشهيد الصدر جعل تشخيص مصالح الزمان والمكان هو المعيار الأساس، وهو معيار – برأيه – غير كافٍ ما لم يُضمّ إليه الالتفات إلى المقاصد الكلّية للشريعة.
وضرب مثالًا بمقصد الشريعة في تكثير نسل المسلمين، المستفاد من نصوص عديدة.
وأشار إلى أنّ سياسات تحديد النسل في أوائل عقد السبعينيات الهجرية الشمسية اعتمدت على مصالح ظرفية، مع الغفلة عن هذا المقصد الشرعي الثابت، ما أدّى إلى ترسيخ ثقافة الاكتفاء بالقليل من الأبناء، وجرّ البلاد اليوم إلى حافّة أزمة ديموغرافية خطيرة.
وعليه، فإن الاكتفاء بالمصلحة المرحلية دون مراعاة المقاصد العليا قد يفضي إلى نتائج تشريعية مدمّرة.
التفريق بين أنواع الأحكام غير الإلزامية ومكانة الرخص الشرعية
تطرّق الأستاذ أرسطا بعد ذلك إلى ملاحظتين تكميليتين:
1. عدم التفريق بين أنواع الأحكام غير الإلزامية
حيث لم يُفرّق الشهيد الصدر بين المستحب والمكروه والمباح، مع أنّ تحويل المباح (فاقد المقتضي) إلى حكم إلزامي يختلف جوهريًا عن تحويل المكروه (المنطوي على مفسدة غير ملزمة) إلى وجوب.
2. حدود تقييد الرخص الشرعية
انطلاقًا من الحديث النبوي:
«إنّ الله يحبّ أن يؤخذ برخصه كما يحبّ أن يؤخذ بعزائمه»
طرح أرسطا تساؤلًا حول مدى جواز قيام وليّ الأمر بتقييد الحريات المشروعة والرخص المحبوبة شرعًا بذريعة التشريع في منطقة الفراغ.
النموذج الأمثل للتقنين: شراكة ثلاثية
وفي ختام الجلسة، أجاب الأستاذ أرسطا عن تساؤلات الحضور، مبيّنًا الفارق بين منطقة الفراغ في الفقه الشيعي ومنطقة العفو في الفقه السني؛ فالأولى جزء من هندسة تشريعية واعية، بخلاف الثانية التي تنشأ عن قصور في مصادر التشريع.
كما قدّم نموذجًا عمليًا للتقنين في مجلس الشورى الإسلامي، قائمًا على تشكيل لجان ثلاثية تضمّ:
الفقهاء،
الخبراء في الموضوعات التخصصية،
ومترجمين علميين قادرين على وصل لغة الفقه بلغة الخبرة الفنية.
وخلص إلى أنّ هذا التفاعل الثلاثي هو السبيل لضمان تشريع رصين يجمع بين الاتقان الشرعي والدقة العلمية.
—
الآية المرجعية:
[1] سورة النساء، الآية 59
